آخر الاخبار

shadow

المحكمة الاتحادية العليا وفرض الوعي بالدستور داخل البرلمان - تحليل قانوني لقرار اسقاط نيابة رئيس البرلمان-

د. اسامة شهاب حمد الجعفري/ مدرس القانون بجامعة الفرات الاوسط التقنية

سيطرة البرلمان أم سيادة القانون؟

جاء قرار المحكمة الاتحادية العليا المرقم 9/اتحادية/2023 في  14 /11 /2023 والقاضي بإسقاط عضوية رئيس مجلس النواب محمد ريكان الحلبوسي لإنتهاكاته المتكررة للدستور ليقول بطرازٍ جديد "ان السيادة للقانون" لا للأشخاص, ولا سيادة لمن لا يحترم سيادة القانون, دافعاً المؤسسة التشريعية نحو فكرة "العقلانية البرلمانية" التي هي عبارة عن فلسفة حكم تمنع الهيمنة غير الدستورية للبرلمان على مفاصل الدولة عند اداء اعماله التشريعية وغير التشريعية لمنع شرعنة الاستبداد باسم السيادة البرلمانية. والتجلي الابرز في فلسفة العقلانية البرلمانية هو القضاء الدستوري المتمثل بالمحكمة الاتحادية العليا بما هي اداة للحد من الحرية المطلقة للبرلمان التي قد تسبب الانحراف عن القاعدة الدستورية.

اذن, العقلانية البرلمانية هي آليات في ضبط سير المؤسسة البرلمانية وتأطير ممارستها بالدستور والقانون, نحو ضمان الحريات وصيانة الحقوق واقامة الدولة القانونية التي لا يخشى فيها مواطنٌ مواطن اخر. ولا يتأتى ذلك إلا عبر ضمانات قانونية مرتبطة بنظام الدولة بشكل لا تقبل الانفكاك, وتتجسد هذه الضمانات بضمانين: الضمان الاول: النخبة القائدة النزيهة التي تدير دفة السلطة والمسؤولة عن رعاية الدستور وحمايته وملتزمة باحترام كلمة "الشعب" الذي وضعها في الدستور, فلم يختارهم الشعب إلا على أساس تعهدهم باحترام الدستور والقانون, وكلما كانت هذه النخبة ملتزمة بالدستور عند ممارستها للسلطات كلما تسارعت وتيرة التحول الديمقراطي, وكلما خرجت هذه النخبة عن القانون كلما تعقدت مسألة التحول الديمقراطي وعرقلت مسيرة الشعب والاجيال باتجاه ذلك التحول المنشود.

 والضمان الثاني : وجود جهاز قضائي يكون حارس الدستور الأمين يتمتع بالاستقلال والحياد والقوة ويرتب الجزاء على مخالفة إرادة الشعب. وبما ان المحكمة الاتحادية العليا تحرس الدستور فهي بمعنى أدق حارس أمين لحقوق الشعب وحرياته من إنحراف النخب الحاكمة التي تقود السلطة, فالمحكمة الاتحادية تمثل وسيلة الشعب ضد طغيان الحكام ومعقل مقاومته ضد أي استغلال للسلطة, فهي الحصن والملجأ والملاذ لتحقيق الديمقراطية ومحور العدالة الشعبية الدستورية.    

واذا كانت المحكمة الاتحادية هي التجلي الواضح للعقلانية البرلمانية لضبط ايقاع المؤسسة التشريعية وفقاً للدستور فإن "الجزاء" يعد وسيلة فعالة بيد القضاء الدستوري لفرض العقلانية البرلمانية التي تؤسس للوعي بالدستور داخل البرلمان وضبط مساراته وتأطير اعماله, وتفرض المحكمة الاتحادية العليا نوعين من الجزاءات القانونية لفرض الدستور: الجزاء الاول: جزاء موجه لنتاج البرلمان المتمثل بإبطال القوانين ولقرارات التي يصدرها لعدم دستوريتها.

والجزاء الثاني: جزاء موجه للنائب نفسه المتمثل بإسقاط نيابته عندما يفقد أحد شروطها, إذ نصت المادة (12/ ثالثاً) من قانون مجلس النواب وتشكيلاته رقم 13 لسنة 2018 على أنه : (تنتهي النيابة في المجلس في الاحوال الاتية:.... ثالثاً: ثبوت فقدان احد شروط النيابة المنصوص عليها في الدستور وقانون الانتخابات وهذا القانون) وبالعودة الى قانون انتخابات مجلس النواب ومجالس المحافظات والاقضية رقم 12 لسنة 2018 فإنه لم ينص إلا على شروط الترشيح للعضوية في المادة (7) منه ولم ترد عبارة "شروط النيابة" ويتبين ان مفهوم "شروط النيابة" أوسع من شروط الترشيح للعضوية وما الاخيرة الا جزء من شروط النيابة. ولم يجيب القانون على ماهي شروط النيابة؟ لقد أشارت المادة (12/ ثالثاً) من قانون مجلس النواب العراقي وتشكيلاته الى مكان وجود هذه الشروط فقالت: ان مكان تواجدها في (الدستور – قانون الانتخابات – قانون مجلس النواب) ولكن لم تحدد ماهي هذه الشروط وحددت فقط شروط الترشيح التي هي جزء منه شروط النيابة, ولم يكن اعراض المُشرِّع العراقي عن تحديد هذه الشروط بشكل صريح إلا رغبة منه في منح القضاء والفقه الدستوريين صلاحية تحديدها وفقاً للتطورات السياسية والاجتماعية والاقتصادية للمجتمع والدولة ليمنح وثيقة الدستور الكفاءة الحركية والقدرة على التطور لمواجهة الواقع المتغير .     

     ومن خلال استقراء نصوص الدستور وقانون مجلس النواب يتبين ان لشروط النيابة نوعين : الاول: شروط نيابة شكلية: وهي شروط الترشيح الى عضوية مجلس النواب التي نص عليها قانون الانتخابات , وشروط نيابة موضوعية : وهي إلتزام النائب بالإرادة الشعبية المتمثلة بالدستور والقانون عند أداءه البرلماني من حيث المضمون والمدى, فلا يحق له الإنحراف بهذه الإرادة ولا يحق له استغلالها ولا تجاوز حدودها ولا الخروج على الصلاحية المكلف بها, سواء لنفسه أو لحزبه أو لقطاع معين من الناس وإلا كان غير صالح لتمثيل الارادة الشعبية, والاساس الدستوري لشروط النيابة الموضوعية  هو "اليمين الدستوري" الذي جاء في المادة (50) من الدستور والذي بين حدود النيابة ومداها كشرط موضوعي لها, ثم جاء قانون مجلس النواب وتشكيلاته فارضاً التزامات تفصيلية على النائب تمثل شروط النيابة الموضوعية في المادة (10) منه مثل إلتزام النائب باحترام هيبة المؤسسات الدستورية وان انتهاك هذا الإلتزام يعد خطأً جسيماً يستوجب إسقاط نيابته.       

وبذلك تخلق المحكمة الاتحادية العليا داخل البرلمان الوعي بالدستور بقوة الجزاءين أما ترك تطبيق القاعدة الدستورية دون جزاء أو الى مشيئة نواب الشعب فلا يكون هناك يقين واحترام للدستور لا في تطبيقه ولا في مداه ولا يكون هناك أصلاً أي مجتمع قانوني منظم. فليس القضاء الدستوري مجرد قضاءً تطبيقياً ميكانيكياً يقوم بإنزال حكم الدستور والقانون بشكل آلي على الوقائع المعروضة, وانما يتحتم عليه دوماً ايجاد نوع من التوازن بين الشرعية الدستورية وإعلاء حكم الدستور بوحدة عضوية تقود نحو ايجاد ضبط دستوري داخل الدولة في كل مفاصلها وعدم السماح لأي خرق للدستور؛ لان ذلك الخرق يعني عدم استقرار الدولة, وهذه المهمة الاخلاقية الكبرى التي يضطلع بها قضاة المحكمة الاتحادية العليا في العراق هي من أصعب المهام وأعقدها في ظل عدم استقرار سياسي واقتصادي واجتماعي, ومن خلال هذا الدور فإن القضاء الدستوري يهدف بالنهاية لضبط ايقاع الاداء البرلماني والتنفيذي من خلال استخلاص لمقاصد ومعاني النص الدستوري من عموم الوثيقة الدستورية واستجلاء مفهومها ليخلق مبادئ قضائية ويكفل "سمو الدستور" لان المحكمة الاتحادية العليا تنتصر للارادة الشعبية لا ارادة نواب الشعب. 

مواضيع ذات صلة