كلمة معالي السيد رئيس المحكمة الاتحادية العليا في ملتقى القضاء الدستوري الاول
بسم الله الرحمن الرحيم
((يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَىٰ فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ ۚ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ))
صدق الله العلي العظيم
أيها الأخوة الحضور ...
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
إن جمهورية العراق دولة اتحادية واحدة مستقلة، ونظام الحكم فيها جمهوري نيابي برلماني ديمقراطي، وفقاً لما جاء في المادة (1) من الدستور، وإن النظام الديمقراطي في العراق يقوم على الأسس التالية ((أن الشعب هو مصدر السلطات وشرعيتها، يمارسها بالاقتراع السري العام المباشر وعبر مؤسساته الدستورية، استناداً لأحكام المادة (5) من الدستور)) وعلى مبدأ ((التداول السلمي للسلطة، عبر الوسائل الديمقراطية المنصوص عليها في الدستور، استناداً لأحكام المادة (6) منه)) وعلى وجوب توفير الضمانات كافة التي تمكن جميع المواطنين رجالاً ونساءً، حق المشاركة في الشؤون العامة، والتمتع بالحقوق السياسية، بما فيها حق التصويت والانتخاب والترشيح، استناداً لأحكام المادة (20) من الدستور، ويقوم النظام الديمقراطي في العراق كذلك على أساس حرية تأسيس الجمعيات والأحزاب السياسية، أو الانضمام إليها، ولا يجوز إجبار أحد على الانضمام إلى أي حزب أو جمعية أو جهة سياسية، أو إجباره على الاستمرار في العضوية فيها استناداً لأحكام المادة (39/أولاً وثانياً) من الدستور، وعدم جواز تقييد ممارسة أي من الحقوق والحريات الواردة في الدستور أو تحديدها إلا بقانون أو بناءً عليه، على أن لا يمس ذلك التحديد والتقييد جوهر الحق أو الحرية استناداً لأحكام المادة (46) من الدستور، لذلك فإن أساس العملية الديمقراطية في العراق تقوم على أساس تحقيق مبدأ التداول السلمي، وإن ذلك يتحقق من خلال تطبيق مبدأ دورية الانتخابات، بما يضمن تطبيق النظام الديمقراطي بشكله الصحيح وليس مجرد نصوص قانونية من أجل الوصول إلى ديمقراطية الشعب وليس ديمقراطية السلطة الحاكمة. ثانياً: إن الهدف من المبادئ التي يتضمنها الدستور هو إرساء القواعد الأساسية لطريقة تنظيم الدولة وتشكيل حكومتها والحقوق الأساسية التي يتعين تنفيذها والمبادئ الأساسية التي توجّه النظام الانتخابي وترشده، وحقوق المواطنين في ممارسة الديمقراطية ودور الأحزاب السياسية والسلطات الانتخابية.
ويعد قانون الانتخابات أساساً للتمثيل النيابي الحقيقي المعبر عن روح وقيم الدستور النافذ، فإذا توفرت الوسيلة الصحيحة التي تحقق التمثيل النيابي السليم فإن العملية السياسية والتشريعية سوف تكون متقدمة وناجحة باعتبار أن مجلس النواب بوصفه الممثل الحقيقي لإرادة الشعب والمختص بتشريع القوانين والرقابة على أداء السلطة التنفيذية وهو الرحم الذي تولد منه السلطة التنفيذية، يجب أن يكون معبراً تعبيراً حقيقياً عن إرادة الشعب، وكذلك يجب الأخذ بنظر الاعتبار عند تشريع أي قانون انتخابي مدى تحقق المطلب الدستوري في التمثيل لإرادة الشعب من خلال ذلك القانون.
إضافة إلى أن المنظومة القانونية الانتخابية تُعَد من أهم مقومات إجراء العملية الانتخابية حيث تشمل المنظومة المذكورة الدستور، والقانون الانتخابي الذي يتضمن نوع النظام الانتخابي والقوانين ذات الصلة بالانتخابات كقوانين الأحزاب السياسية، وقانون استبدال الأعضاء، وقانون المفوضية العليا المستقلة للانتخابات وغيرها، وإن كل ذلك يجب أن يكون لغاية أساسية ودستورية ووطنية وهو إجراء انتخابات أكثر نزاهة وعدالة ومشاركة أكبر، ومن ثم إقامة مؤسسات الدولة وفق أُطر دستورية وقانونية.
إن النظام السياسي في العراق يقوم على أساس التعددية الحزبية استناداً لأحكام المادة (39/أولاً) من الدستور، والتي نصت على (حرية تأسيس الجمعيات والأحزاب السياسية، أو الانضمام إليها، مكفولة، ويُنظم ذلك بقانون)، وإن هذه التعددية تستهدف أساساً الاتجاه نحو تعميق الديمقراطية وإرساء دعائمها بشكل حقيقي وليس بشكل نظري فقط، ويكون ذلك في اطار المادة (20) من دستور جمهورية العراق لعام 2005، والتي نصت على (للمواطنين رجالاً ونساءً، حق المشاركة في الشؤون العامة، والتمتع بالحقوق السياسية، بما فيها حق التصويت والانتخاب والترشيح) وباعتبار أن حق التصويت والانتخاب والترشيح يمثل مدخلاً أساسياً للديمقراطية وقاعدة أساسية لها، وبذلك كفلها الدستور لضمان تمتع الجميع بالحقوق السياسية ومشاركتهم في الشؤون العامة وإدارة البلد،وإن التعددية الحزبية تحمل في طياتها تنظيماً تتناقض فيه الآراء أو تتوافق، تتعارض أو تتلاقى، ولكن المصلحة الوطنية تظل إطاراً لها ومعياراً لتقييمها وضابطاً لنشاطها وهي مصلحة يقوم الشعب بمجموعه على تحقيقها، وبالتالي يجب أن لا تكون التعددية الحزبية وسيلة انتهجها المُشرّع الدستوري لإبدال سيطرة نظام حكمٍ بآخر، لاسيما أن الشعب العراقي رزخ تحت هيمنة حكم فردي مستبد لمدة طويلة من الزمن رتبت آثارها السلبية الكبيرة على حقوق الشعب وعلى مكانة العراق محلياً ودولياً وعلى بناء الدولة، لذلك كانت التعددية الحزبية هي الأساس في بناء نظام الحكم في العراق من الناحية الدستورية، باعتبار أن تلك التعددية طريقاً قوياً للعمل الوطني من خلال ديمقراطية الحوار التي تتعدد معها الآراء وتتباين على أن يظل الدور الذي تلعبه الأحزاب السياسية مرتبطاً في نهاية الأمر بإرادة هيئة الناخبين في تجمعاتها المختلفة، وهي إرادة تُبلورها عن طريق اختيارها الحر لممثليها في المجالس النيابية، وعن طريق الوزن الذي تعطيه بأصواتها للمتزاحمين على مقاعدها، لذا يجب أن تكون الغاية التي تتوخاها تلك الأحزاب وفي ضوء برامجها الانتخابية غاية وطنية نبيلة ومصلحة تستند إلى المصلحة العليا للشعب والوطن هدفها تحقيق مبدأ التداول السلمي للسلطة والتوزيع العادل للثروة ومبدأ تكافؤ الفرص للجميع وإبعاد العملية السياسية والديمقراطية عن المحاصصة الطائفية أو القومية أو السياسية، وذلك لأن مبدأ الديمقراطية يقوم على أساس حكم الشعب بنفسه بعيداً عن التسلط وظلم الآخرين، وبعيداً عن التجاوز على حقوق الشعب السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وذلك لأن النظم الديمقراطية إذا لم تؤدِ إلى تحقيق مبدأ التداول السلمي للسلطة بشكل حقيقي فهي ديمقراطية النظام السياسي الحاكم وليس ديمقراطية الشعب.
وهي بنفس الوقت ديمقراطية هضم حقوق الشعب وليست ديمقراطية الحفاظ على تلك الحقوق وإيصالها إلى أصحابها الشرعيين. وإن كفالة حق التصويت والانتخاب والترشيح دستورياً يستلزم ممارسة تلك الحقوق من قِبَل الشعب بأطيافه ومكوناته كافة دون تمييز في أسس مباشرته لتلك الحقوق ولا أفضلية لبعض المواطنين على البعض في أي شأن يتعلق بتلك الحقوق لضمان أن يظل العمل الوطني جماعياً لا امتياز فيه لبعض المواطنين على البعض ومن خلال هذه الجهود المتظافرة في بناء العمل الوطني تعمل الأحزاب متعاونة مع غير المنتمين إليها في إرساء دعائمه، وذلك كله باعتبار أن السيادة للقانون والشعب هو مصدر السلطات وشرعيتها يمارسها بالاقتراع السري العام المباشر وعبر مؤسساته الدستورية استناداً لأحكام المادة (5) من الدستور، وذلك يجب أن يؤدي إلى أن من يتولى إدارة البلد سواءً على الصعيد الاتحادي أو الإقليمي أو فيما يخص المحافظات غير المنتظمة في إقليم يمثل السيادة للشعب العراقي بالكامل فيما يخص مجلس النواب والسيادة الشعبية لشعب الإقليم أو لشعب المحافظات غير المنتظمة في إقليم، ويؤدي إلى التخلص من سيطرة جماعة بذاتها على غيرها، وفي هذا كله تكمن قيمة التعددية الحزبية باعتبارها توخياً دستورياً نحو تعميق مفهوم الديمقراطية التي لا تمنح الأحزاب السياسية دوراً في العمل الوطني يتجاوز حدود الثقة التي توليها هيئة الناخبين لمرشحيها الذين يتنافسون مع غيرهم وفقاً لأسس موضوعية لا تحدها عقيدة من أي نوع.
وباعتبار أن دستور جمهورية العراق يمثل روح الشعب، لذا يجب أن يكون الجميع أمناء على تنفيذه حيث تتجسد فيه أحلام الشعب وآمالهم، ويجب أن تكون الغاية منه بناء نظام ديمقراطي اتحادي برلماني ويتحقق فيه الخير للشعب، ويجب أن لا تكون مبادئه قواعد صماء كدمى تتقاذف بها الرياح لمصلحة جهة معينة أو شخص معين وأن لا تكون المحاصصة الطائفية أو السياسية أو الوراثة السياسية سبباً لهدر كل تلك القيم الدستورية، إذ يجب أن تكون مبادئ الدستور منبعاً يضخ بالخير والعدل للشعب العراقي وتتمثل فيه دماء الشهداء ويُتم الأطفال ودمعة المظلومين والفقراء وعوز الوالدين لمالٍ يعالج به أبناءهم أو يسد به رمق أطفالهم ويجب أن ندرك أن بين أيدينا أمانة الله، أوكلنا الله تعالى إياها، أمانةً الغاية منها أن نهب العزة والكرامة للإنسان الذي كرمه الله سبحانه وتعالى على سائر المخلوقات، وأن تجسد كل قيم العدالة باعتبارها المرشد الرئيس للأخلاق الإنسانية العالمية،
وإن ثبات الدولة يتم بإقامة سنن العدل، وبالعدل تصلح الرعية وإن أفضل عباد الله عند الله إمام عادل، وإن الخلق عيال الله وأحب الناس الى الله أشفقهم على عياله.
وأنه لشرف كبير لنا أن نكون في هذا الصرح التأريخي الوطني الكبير المتمثل بكلية القانون في جامعة بغداد ونشكر جميع القائمين على هذا الملتقى (القضاء الدستوري العراقي) ونتمنى له النجاح بجميع جوانبه والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
القاضي
جاسم محمد عبود
رئيس المحكمة الاتحادية العليا