آخر الاخبار

shadow

دور القضاء الدستوري في ضمان استقلال الجامعات مقاربة بين قرار المحكمة الدستورية العليا المصرية رقم 131 لسنة 22 قضائية لسنة 2002 والدعوى المنظورة امام المحكمة الاتحادية العليا بالرقم 97/اتحادية/ لسنة 2021

أ.د. علي هادي عطية الهلالي / عميد كلية القانون - جامعة بغداد

    الجامعات مراكز للإشعاع الفكري ، ولرفد المجتمع باحتياجاته البشرية والبحثية بالاختصاصات كافة ، وكلما تجددت حاجات المجتمع استلزم على الجامعات ان تستجيب لتلك المستجدات ، لذا بدأ السباق المحلي والدولي لاعتلاء الجامعات مراكز متقدمة في التصنيفات الدولية التي تعتمد معايير عدة اخصها: الجوانب البحثية وبراءات الاختراع والحصول على الجوائز وتطور الأسس التي تعتمدها الجامعات في عملها واولوياتها فضلاً عن السمعة العالمية لها، إذ لم تعد الجامعات في العالم أمكنة للحصول على المؤهلات العلمية لانخراط مخرجاتها البشرية في مصانع العمل المتنوعة فقط بل أصبحت ينابيع لتطوير مناحي الحياة كافة وتحولها من جامعات مستهلكة تثقل نفقات الدولة الى جامعات منتجة ومسهمه بتحقيق إيرادات ترفد خزينة الدولة ، ونظرا لارتباط العديد من الحقوق والحريات الواردة في الدساتير والمواثيق الدولية بمهام الجامعات وأهدافها كان من الطبيعي أن يكون ضمان استقلالها مؤطراً في نطاق الدساتير مما يلقي على القضاء الدستوري دوراً جديداً لضمان  ذلك الاستقلال مما يجعل من القضاء الدستوري مسهماً في رقي الجامعات في مراكز متقدمة في التصنيفات العالمية .

  يعرف استقلال الجامعات بأنه :"حرية الجامعة في إدارة شؤونها الإدارية والمالية والأكاديمية دون أي تدخل من أي جهة خارجية ، سواءٌ كانت الدولة أو مؤسسات المجتمع "((1))  

   وكثيرا ما يربط استقلال الجامعات بالحريات الأكاديمية ، كون العلاقة وثيقة تقوم على الترابط والتكامل بينهما إذ لا يمكن ممارسة الحرية الاكاديمية دون وجود نوع أو درجة معينة من استقلالية الجامعات ((2))

   ودأب المشرع الدستوري المصري على ضمان استقلال الجامعات صراحة في دستور 1971 ، ودستور 2014 ((3 )) ، لذا لم تتردد المحكمة الدستورية العليا المصرية من بسط رقابتها على المطاعن ضد القوانين التي تمس استقلال الجامعات ، ولم تتوانى من تقديم رؤيتها لمعنى الاستقلال مثلما قضت :" أن استقلال الجامعات ومراكز البحث العلمي هو استقلال لا ينفصم ولا ينفصل عن حاجات المجتمع والإنتاج " ، فضلاً عن اظهار المحكمة وتحديدها غاية استقلال الجامعات لذا قضت :" وفي نطاق المقاصد العليا للقانون التي تستهدف تطوير التعليم الجامعي وتمكين الجامعات من النهوض بأعبائها العلمية "((4)) ، كما لم تنفك المحكمة نفسها حتى ربطت بين مبدأ استقلال الجامعات من جهة وبين حرية البحث العلمي حين وجدت ان القانون الطعين الذي يرجع بالأثر الرجعي بما يغير المركز القانوني للأستاذ المتفرغ (المتقاعد) يعارض صراحة ضمانة البحث العلمي المنصوص عليها دستورياً حيث قضت :" أما الوجه الثاني لمخالفة النص الطعين للدستور، فهو مساسه بإحدى الحريات الأساسية التي كفلها الدستور للمواطنين كافة وهي حرية البحث العلمي، ذلك أن هذه الحرية هي من الحريات التي لا تنفصل ولا تنفصم عن شخص الباحث العلمي، فلا مفارقة بينها وبينه ولا يتصور لها كيان أو وجود استقلالا عنه " ((5))

    وترسم لنا المحكمة الدستورية العليا المصرية الغاية النهائية لمسارها القضائي في اعدام القانون الذي تقاطع مع واجبات الدولة في تحقيق مستلزمات البحث العلمي وأخصها: استقلال الجامعات والحريات الاكاديمية عندما ربطت المحكمة مسارها القضائي بموجبات الدفاع عن مقاصد المشرع الدستوري حين قضت:" تقديرا من المشرع الدستوري بأن ثمرة هذه الحرية هي التقدم العلمي كمفتاح أمل واحد ووحيد لاستعادة مصر مكانها ومكانتها الحضارية"((6)) ، وبالنتيجة حققت الجامعات المصرية مؤخراً تواجداً بيناً في التصنيفات العالمية للجامعات وبخاصة في تصنيفات (شنغهاي الصيني ،  وتصنيف QS البريطاني، وتصنيف CWUR العالمي ، وتصنيف US- News  الأمريكي ، وتصنيفات أخرى )

   ولكن في ظل الدستور العراقي يتبين أنه خلا من إيراد مبدأ استقلال الجامعات صراحة ، وإن كان قد نص على عدد من المبادئ والحقوق والحريات الأخرى التي لا تقبل الانفصال عنه ، لذا فإن نطاق الرقابة المرسوم للمحكمة الاتحادية العليا يستوجب جهداً استنباطياً أكبر ، كون المحكمة لا تملك الدفاع عن الحق في استقلال الجامعات "غير المنصوص عليه صراحة" الا إذا استنبطته من حقوق أخرى متصلة به اتصالاً لا يقبل الانفصال بحسبان أنه لازمٌ لتحقيقها أو نتيجة لها ، فضلا عن اتصالهما بثمرة واحدة سعى اليها المشرع الدستوري ، فالحق في التعليم ((7)) ، والحق في تشجيع الدولة البحث العلمي ورعاية التفوق والابداع والابتكار  ((8)) ، والحق في رعاية الدولة للمؤسسات الثقافية ((9)) ، فإنها حقوق يمكن أن يتفرع عنها الحق في استقلال الجامعات بحسبان اتصاله بها ولزومه لتحقيقها وتكامله معها ،  أما حرية التعبير عن الرأي بكل الوسائل ((10)) ، فإنها تتفرع حريات كثيرة تتصل باستقلال الجامعات والحريات الاكاديمية وأخصها: حرية البحث العلمي و حرية التدريس وحرية النشر وحرية الإدارة المالية والإدارية والحرية الفكرية . ولكن إن كان ما يسند التفريع المتقدم هو توجه المشرع العادي الذي كفل الاستقلال الإداري والمالي للجامعات ((11))   فهل تملك الجامعات العراقية مساحة من الاستقلال في الخطط العلمية لها ؟

   يجد المتتبع لنصوص القانون أن الجامعات تقترح الخطط ((12)) ، وتوحد هذه الخطط بخطة واحدة ((13)) وترفعها الوزارة لتتضمنها السياسة التعليمية في البرنامج الحكومي ، بما يجعل الجامعات تعمل بنموذج واحد من العمل وخطة شمولية واحدة رغم تفاوتها بالامكانيات المادية والبشرية بما يجعل من إمكانية المنافسة بينها أو بينها وبين الجامعات الإقليمية والعربية وغيرها تتضائل ، وبالنتيجة انحسار فرص جذب الطلبة الأجانب أو استضافة البحوث المشتركة أو البلوغ الى السمعة الاكاديمية العالمية للارتقاء بتصنيف الجامعات ..الخ

   ولكن ما هو دور المحكمة الاتحادية العليا في ضمان استقلال الجامعات في العراق وهل يمكن لها إرساء دعائم الاستقلال والحريات الاكاديمية  بما يمكن الجامعات من بلوغ غاية سعيها في الوصول الى التصنيفات العالمية ؟

   حاولت المحكمة الاتحادية العليا أن تستند الى مبدأ السياسة العامة التعليمية لتوضيح رؤيتها في قبول طلب الحكم بأمر ولائي للمدعي المنهي تكليفه كرئيس احدى الجامعات الحكومية ((14)) ، ولكن هل يكفي هذا الأساس في تدعيم أسس استقلال الجامعات والحريات الاكاديمية  وابعادها عن التدخلات السياسية والحزبية والتعديلات المستمرة في التشريعات والضوابط ؟

  أظن ان المحكمة بحاجة الى توسعة مساحة الاسانيد التي تدعم دورها في الرقابة على السياسة التعليمية للارتقاء بدور مشابه لدور المحكمة الدستورية العليا في مصر ، فلا غنى عن البحث في الضمانات الدستورية الضمنية التي تتصل بمبدأ استقلال الجامعات و الحريات الأكاديمية ولا تنفصل عنه ، بمعنى: يرتجى من المحكمة الاتحادية أن ترسي دعائم استقلال الجامعات اطاره الدستوري حتى تتمكن الجامعات من تسيير برامجها العلمية والإدارية والمالية باستقرار ورؤية واضحة لبلوغ السعي للارتقاء بمرتبة في التصنيفات العالمية بما يتناسب مع عمق تجربة الجامعات في العراق ، فالمحاكم الدستورية أو العليا في العالم تؤدي دوراً واضحاً في رسم السياسات العامة وأخصها السياسة التعليمية فضلاً عن رقابتها على رسم تلك السياسة وتنفيذها ، لذا يمكن للمحكمة الاتحادية أن تقطع الطريق أمام التدخلات السياسية و القرارات التنفيذية المتسرعة والتعديلات التشريعية التي تتقاطع مع مقاصد النصوص الدستورية التي تتصل بمبدأ استقلال الجامعات .

(1) أ.د. بدر بن جويعد العتيبي .الاحتياجات التنموية لاستقلال الجامعات السعودية رؤية 2030 ، ص 105 ، الموقع:https://jfust.journals.ekb.eg  

(2) أ.د. رياض عزيز هادي . الجامعات ، جامعة بغداد، مركز التطوير والتعليم المستمر ، المجلد الثاني ، عدد 2 /2010 ، ص 78 .

(3) المادة 18 من دستور جمهورية مصر العربية  1971 الملغي ، والمادة 21 من دستور جمهورية مصر العربية 2014 المعدل النافذ

(4) القضية 131 لسنة 2002

(5) القضية 131 لسنة 2002

(6) القضية 131 لسنة 2002  

(7) المادة /34 – أولاً من دستور 2005

(8) المادة /34 – ثالثاً من دستور 2005

(9) المادة /35 من دستور 2005 

(10) المادة/38-أولاً من دستور 2005  

(11) المادة /10 من قانون وزارة التعليم العالي رقم 40 لسنة 1988 المعدل النافذ

(12) المادة /16 – 1- ب من قانون رقم 40 لسنة 1988

(13) المادة /3 من قانون رقم 40 لسنة   1988

(14) القضية رقم 97/اتحادية/ لسنة 2021

مواضيع ذات صلة