الفكرة القانونية السائدة في الدستور وأثرها على التشريع العادي
د. منير حمود الشامي
لا بد من القول إن القوانين الدستورية ليست كغيرها من القوانين، لأنها نظم لها تأثيرها غير المحدود على حياة الشعوب، فقد يعتقد البعض أن الدستور وإن كان يمس كل جوانب حياة الفرد داخل الدولة، إلا أنه في ذاته ليس إلا سياجاً من ورق، تتوقف قيمته العملية على سلوك كل من الحاكمين والمحكومين على السواء، وترتبط مسيرته بالرجال الذين يُطبقونه وبالظروف التي تُحيط به، غير أن ذلك وإن بدا صحيحاً من الناحية النظرية، إلا أن الواقع يؤكد عكسه، فالوعي الدستوري والإيمان بالدولة القانونية من شأنها تحويل هذا السياج الورقي إلى قلعة عتيدة تصون وتحمي ما تضمنه هذا الدستور من حقوق وحريات للمجتمع والأفراد في تطورها المستمر، فالكتب السماوية كلها قد تبدو بدورها سياجاً من ورق، إلا أن الأيمان الحقيقي بها يجعلها سياجاً من فولاذ، يتم التضحية بالدم والنفس من أجل الحفاظ عليها وتدعيمها. فكل دستور يصدر بفكرة قانونية سائدة (ايدلوجيا) فيه ويكون مشبعاً بها، وهي تؤثر بطبيعة الحال أبلغ التأثير فيما يضعه من تنظيم للسلطة وتنظيم للحرية والتوازن بينهما، بل أن تأثيرها في الدستور يبلغ في كثير من الأحيان حداً يغدو معه من المستحيل أن تُفسر نصوص الدستور بغير الرجوع لتلك الفكرة السائدة، والدستور قد ينص عليها أما صراحة مثل إعلان الحقوق الوارد في مقدمة الدستور الامريكي، أو يمكن الاستدلال عليها واستخلصها ضمنياً عن طريق فحص طبيعة النشاط السياسي الذي جاء بالدستور والغرض المقصود منه، كالدستور الاردني 1925م، والذي لم ينص صراحة على الاشتراكية المعتدلة واكتفى بان أورد التزامات الدولة وواجباتها تجاه الفرد.
وبالتالي يمكننا القول بأن الفكرة القانونية السائدة في الدستور هي الفكرة التي لها الغلبة بين الأفراد فيما يتعلق بشكل الدولة وطبيعة نظام الحكم وتنظيم اختصاصات السلطات وحقوق الأفراد وحرياتهم، والتي ينبغي أن تتطابق معها كل التصرفات الصادرة عن سلطات الدولة المختلفة وبخاصة القوانين الصادرة من السلطة التشريعية، فعليها يُبنى كل النظام القانوني للدولة، ومن ثم يجب التمييز بين دولة لها دستور وبين الدولة الدستورية والفرق بينهما شاسع. ومما تقدم نستطيع ان نحدد الفكرة القانونية السائدة (ايدلوجيا) في دستور جمهورية العراق لسنة 2005م ، وهي فكرة (عراق جمهوري اتحادي ديمقراطي)، تلك الفكرة السائدة والمشبع بها الدستور العراقي، والتي بالإمكان الاستدلال عليها من الدستور ذاته وبمواضع كثيرة بدءاً بالديباجة وانتهاءً بما بعدها من نصوص دستورية عديدة ضمها الدستور بين جنباته، إذ تُبين تلك النصوص هذه الفكرة وتؤكد عليه، وبالتالي على المشرع العادي العراقي متمثلاً بمجلس النواب المؤقر باعتباره السلطة المسؤولة عن أمانة التشريع التقـيّد بتلك الفكرة القانونية السائدة والعمل ضمن إطارها وجعلها اساساً ومرتكزاً عند سنه للقوانين وتعضيده لدور الدولة في حمايتها للحقوق والحريات ومحاسبتها عند التخلي عن مسؤوليتها الدستورية، بشكل يتلاءم مع الواقع العراقي ويتفاعل مع مستقبل البلاد الجمهوري الاتحادي الديمقراطي. فالدستور ليس تشهياً، بل هو نسيجاً متكاملاً وكلاً لا يتجزأ. فأكثر ما يُهدد الحرية هو تدخل السلطتين التشريعية والتنفيذية من خلال نصوص قانونية تنال منها أو تُفيد من محتواها أو أصلها. وهنا كان لزاماً على الجهة المنوط بها الرقابة على الدستورية التدخل لتصويبها من اخطائها وإلى ما ينبغي عليها أن تتخذه من التدابير لتوفيق تشريعاتها مع الأوضاع التي تُعاصرها ووفق القيم المتطورة للدستور، ومن ثم يبتكر –القضاء الدستوري- الحل الذي يوافق بين ضرورة احترام المشروعية الدستورية وضرورة حماية مصالح المجتمع واستقرار أنظمته، حتى ولو كان الحل يُخالف ما يقضي به ظاهر النصوص الدستورية. فالمحكمة العليا الأمريكية قد جعلت لنفسها الحق في مناقشة السياسة التشريعية ومدى ملائمة القانون للمجتمع وكثيراً ما فرضت- بناءً على ذلك- آراءها وأخرجت النصوص الدستورية عن مدلولاتها، إلا أننا نجدها في ذلك مقيـّدة بفكرة قانونية سائدة واضحة ظاهرة في الدستور الامريكي وهي فكرة حماية الاتحاد، والتي هي الفكرة القانونية التي على أساسها وضع الدستور الاتحادي، فلم يكن الهدف من أحكامها إذن حماية نصوص الدستور، وإنما حماية الفكرة القانونية السائدة ذاتها، والتي على أساسها وضع الدستور الاتحادي.