آخر الاخبار

shadow

المحكمة الاتحادية العليا... ومبدأ وضوح التشريع

د.احمد طلال عبد الحميد البدري

   من مزايا التشريعات الجيدة وضوح هذه التشريعات لجميع المخاطبين على اختلاف مشاربهم وثقافاتهم، ويتحقق وضوح التشريع من خلال دقة الصياغة التشريعية للقواعد القانونية لتكون واضحة ومفهومة من قبل المخاطبين بها، وهذا يؤدي بالنتيجة إلى استيعابها وسهولة تطبيقها وبالتالي تصب هذه المزية في مبدأ فاعلية التشريع، فالقوانين الواضحة والمفهومة تعمل على زيادة فاعلية التشريع واستقرار القواعد القانونية وعدم زعزعتها أو النيل من ثقة المخاطبين بها ولذلك فأن فكرة وضوح التشريع ترتبط بفكرة الامن القانوني والثقة المشروعة، فوضوح التشريع يعتبر أساس لجودة النظام القانوني لانه يسمح للافراد والمؤسسات ان يحدد في أي مركز قانوني يوجد وفي أي اطار قانوني يعمل هذا المركز القانوني، فوضوح القاعدة القانونية وسهولة الوصول المادي والعقلي لمضمونها وسريانها بأثر مباشر كلها تشكل أساس متين يسمح من خلاله أن يحيط الأفراد والمؤسسات بأوضاعهم القانونية في اطار المنظومة  القانونية وبمختلف مفرداتها، ومن مقتضيات وضوح التشريع هو سهولة الوصول للقانون والعلم به في خضم تزايد عدد التشريعات إلى درجة يصعب متابعتها والعلم بها، وبالتالي لا يكون من العدل أن يلزم الأفراد بقاعدة (الجهل بالقانون ليس بعذر) دون توفير وسائل ايصال القانون لعلم المخاطبين به لان المنطق يقضي أيضاً لا التزام بمستحيل ، وهنا تبرز أهمية وضرورة الوصول للقانون لان مبدأ (الجهل بالقانون ليس بعذر) هو مبدأ صارم يقوم على قرينة معرفة القاعدة القانونية من قبل الخاضعين لها وأن أي واحد منهم لا يمكن أن يفلت من تطبيق القانون بحجة جهله له، وهذه القرينة غير قابلة لاثبات العكس، فلا يمكن للاشخاص الطبيعية والمعنوية المخاطبين بالقانون ان يقيم الدليل على عدم علمه أو جهله بالقانون لان ذلك سيمنع من تطبيق القوانين واستقرار المراكز القانونية وهذا يتعارض مع مبدأ الامن القانوني ، وبالتالي فإن ذلك ينعكس على فاعلية التشريع وقابلية التشريع للتطبيق بسهولة، ويذهب جانب من الفقه إلى عدم وجود فارق في الطبيعة بين الوضوح وسهولة الوصول إلى القانون وفهمه لان بسهولة الوصول إلى القانون وسهولة فهمه تلقي على المشرع التزاماً أوسع من مبدأ وضوح التشريع، لأن سهولة الوصول لتشريع يستتبع بالضرورة وضوحه، فالتشريع الواضح هو التشريع الذي يمكن فهمه وتطبيقه من الأفراد والقضاء وهذا معناه فاعلية التشريع، وبالتالي فإن القواعد القانونية الغامضة والمبهمة تقلل من فاعلية التشريع لعدم امكانية تطبيقها، إلاّ بعد تدخل سلطات أخرى، وهذا من شأنه الاخلال بمبدأ الانفراد التشريعي الذي يؤكد على انفراد المشرع بممارسة الاختصاص التشريعي وعدم التسلب من مباشرة اختصاصه التشريعي من خلال الافراط في وضع القواعد العامة وترك التفاصيل، والافراط بالاحالة التشريعية ، مما يؤدي إلى صدور تشريعات لم تخضع للمناقشة البرلمانية لانها صدرت من سلطات أخرى، حيث تعتبر المناقشة البرلمانية هي جوهر أو معيار النظام التمثيلي أو البرلماني ، وقد أكد المجلس الدستوري الفرنسي على مبدأ وضوح النص القانوني وسهولة الرجوع إليه وذلك لضمان سهولة وصول المواطنين سواء أكان هذا الوصول مادياً أو فكرياً إلى القانون وهذا يعني ينبغي أن تكون النصوص مفهومة حيث اعتبر المجلس الدستوري في قراره الصادر في 12/يناير/2002 مبدأ وضوح التشريع مبدأ دستورياً وان هذا المبدأ مستفاد من نص المادة (34) من الدستور الفرنسي لعام 1958 التي حددت مجال الاختصاص التشريعي للبرلمان الفرنسي، فوضوح التشريع يعني عدم غموض الفاظه وضرورة تحديدها، ولربط مبدأ وضوح التشريع بنص المادة (34) سابقة الذكر فإن المجلس يرى ان مبررات اعتماد مبدأ وضوح التشريع ترجع إلى ضرورات حماية اصحاب الحقوق ضد أي تفسير يخالف الدستور أو ضد مخاطر التحكم ، وكذلك اكد المجلس الدستوري في قراره الصادر في 29/يوليو/2004 على هذا المبدأ واهمية قابلية التشريع للإدراك وسهولة الوصول إليه تتطلب من المشرع ان يتبنى نصوصاً محددة تحديداً كافياً وصياغة غير غامضة حتى يمكن اصحاب الحقوق ضد اي تفسير مخالف للدستور أو ضد مخاطر التحكم دون القاء عبء تحديد القواعد التي لا يكون تحديدها وفقاً للدستور إلاّ بتشريع على عاتق السلطات الإدارية والقضائية، ولذلك بدأ المجلس الدستوري بمراقبة نوعية الصياغة التشريعية وعدم الاكتفاء بمراقبة مدى وضوح أو عدم وضوح التشريع ، وقد ذهبت المحكمة الاتحاديه العليا في العراق الى تبني مبدأ (وضوح التشريع) واعتبرت عمومية النص التي من شأنها جعل النص غامضاً صعب الفهم والتطبيق من المخاطبين به عيباً تشريعياً يستوجب الحكم بعدم دستوريته ، حيث ذهبت في قرارها الصادر في الدعوى (108 وموحدتها 124/ اتحادية / 2019) في 20 /1 /2020 والخاصة بالطعن بعدم دستورية المادة (97/1) من قانون ادارة البلديات رقم (165) لسنة 1964 التي اجازت تسجيل كافة الشوارع الواقعه داخل حدودها المتروك استعمالها للنفع العام الموجودة عند نفاذ هذا القانون او التي تحدث بعد ذلك وفق القوانين المرعية او التي تدخل ضمن حدودها عند تغييرها بدون عوض والزمت دوائر الطابو تصحيح تسجيل هذه الشوارع بأسم البلدية مباشرة اذا كانت مسجلة باسم غيرها لمخالفتها لاحكام المادة (23) من دستور جمهورية العراق لسنة 2005 ، ولكون بعض هذه الممتلكات تعود للافراد كملكية خاصة والتي اسبغ عليها المشرع الحماية القانونية في المادة (1050) من القانون المدني التي نصت بعدم جواز حرمان احد من ملكه الا في الاحوال التي قررها القانون وبالطريقه التي يرسمها القانون وذلك مقابل تعويض عادل يدفع اليه مقدما ، كما حددت المادة (1/ثانياً) من قانون الاستملاك رقم (12) لسنة 1981 اسس موحدة للتعويض العادل عن العقارات المستملكه تضمن حقوق اصحابها دون الاخلال بالمصلحة العامه ، اصدرت المحكمة الاتحادية العليا قرارها بعدم دستورية جزء من هذا النص المتعلق بالملكية الخاصة ، ولنا على هذا القرار التعليق الاتي :
1. ان نص المادة (97/1) من قانون البلديات رقم ( 165) لسنة 1964 اجاز تسجيل هذه الاملاك باسم البلديات دون عوض فأن هذا النص يعد خارقاً لمبدأ قدسية حق الملكية الخاصة وان استملاك او نزع الملكية الخاصة يجب ان يكون لاغراض المصلحة العامة ومقابل تعويض عادل يدفع مقدماً ، كما ان المشرع اغفل التفريق بين عائدية الشوارع المتروكه والتي تسجل باسماء البلديات وفقاً لهذا النص ان كانت مملوكه ملكية خاصة ام ملكية عامة مما يجعل النص صعب التطبيق من قبل القضاء ، ويخل بفاعلية النص الدستوري المكرس لحماية الملكية الخاصة ، حيث جاء في حيثيات قرارها (... وتضمن النص كذلك اثراً ترتب على الجانب الاجرائي منه وهو تسجيل تلك العقارات دون عوض باسم البلديات ، ويلاحظ من قراءة النص المتقدم ذكره انه لم يحدد صنف او جنس او ملكية العقارات التي اصبحت او جزأ منها شوارع متروكه للنفع العام داخل حدود البلديات وهل ان هذه العقارات مملوكة ملكاً صرفاً ، ملكية خاصة ، او عائدة الى الوزارات او الجهات الرسمية غير المرتبطه بوزارة ، وازاء ذلك ترددت المحاكم في دلالة النص موضوع الطعن بعدم الدستورية مابين شمول للعقارات المملوكة ملكية خاصة ، وما بين اقتصار حكمه على العقارات العائدة للدولة ......) ، وهذا من شانه المساس بالملكية الخاصة وحرمان المالكين من التعويض العادل او اجر المثل بسبب غموض النص ونزوع المحاكم المختصة لتفسيره تفسيراً واسعاً يشمل الاموال المملوكة ملكية خاصة للافراد والاموال العامة وتسجلها باسم البلديات بدون عوض .
2. ان اغفال المشرع في التمييز بين الملكية الخاصة والملكية العامة عند صياغة هذا النص لايعود بسبب عدم تنظيم هذه الحالة ، وانما يعود الى التنظيم الناقص لها ، مما تسبب في غموض النص وهذا ادى الى صعوبه فهمه وتطبيقه من قبل القضاء والافراد المخاطبين به ، اذ ان عمومية النص ادت الى توسيع دائرة نطاق النص لتشمل كل انواع الملكية ، وهذا من شأنه خرق النصوص الدستورية التي تقرر الحماية للملكية الخاصة وهذا يستدعي الحكم بعدم دستورية النص ، حيث جاء في حيثيات قرار المحكمة ( ..... ان عمومية نص المادة (97/1) من قانون ادارة البلديات بعدم تشخيصه صنف وجنس وملكية تلك العقارات التي تذهب او جزءأ منها الى شوارع حادثة قبل نفاذ القانون المذكور او بعد نفاذه وتسجل بدون عوض باسم البلديات ما دامت واقعه داخل حدودها ، وان هذه العمومية جعلت نص المادة (97/1) من قانون ادارة البلديات مخالفاً لاحكام المادة (23) من الدستور التي حصنت الملكية الخاصة ولم تجوز نزعها الا لاغراض المنفعه العامة ومقابل تعويض عادل لتلك العقارات ، وعليه قرر الحكم بعدم دستورية نص المادة (97/1) من قانون ادارة البلديات رقم (165) لسنة 1964 بقدر تعلق الامر بالملكية الخاصة للعقارات التي تذهب او جزءا منها الى شوارع حادثه قبل نفاذه او بعد نفاذه داخل حدود البلديات ....) .
3. على الرغم من توجه المحكمة لاعتماد مبدأ وضوح التشريع وهو اتجاه محمود ، الا اننا نختلف مع  المحكمة في طريقه وصولها للنتيجه المتمثلة بعدم دستورية النص الطعين جزئياً – اي الجزء المتعلق بالملكية الخاصة – وكان بامكان المحكمة تجنب اعلان عدم دستورية النص جزئياً من خلال اللجوء الى تفسير المطابقه الدستورية المشروط بتفسير المحكمة لهذا النص بصورة مطابقة لنص المادة (23) من الدستور ، من خلال اعتبار النص دستورياً على ان يتم تعويض مالكي العقارات المملوكة ملكاً صرفاً عن نزع املاكهم لاغراض المنفعة العامة مع حقهم بالمطالبه باجر المثل، بخلاف هذا التفسير يعد النص او جزء هذا النص غير دستورياً ، وبذلك تكون المحكمة قد راعت المادة (23) من الدستور دون اعلان عدم دستورية هذا الجزء من النص باعتبار ان احكامها باته وملزمة للسلطات كافة استناداً للمادة (94) من دستور جمهورية العراق لسنة  2005 ، كما يكون متماشيا مع التطبيق القضائي بعد صدور قانون الاستملاك الذي قيد نص هذه المادة .
4. ان عدم دستورية النص الطعين جزئياً هو مرده مخالفة الدستور لعدم وضوحه ، وهذا التوجه لايقدح بما استقر عليه العمل القضائي من قبل محكمة التمييز الاتحادية الموقرة والمحاكم الادنى لانها معنية بتطبيق القانون وحماية المال العام ، وبالتالي فان العمل القضائي استقر في حالة رفع دعاوى منع المعارضه او اجر المثل من قبل المالك على التحقق من مدى انطباق نص المادة (97) من قانون البلديات المطعون فيه على موضوع الدعوى ، اما بعد نفاذ قانون الاستملاك رقم (12) لسنة 1981 فأن تطبيق احكام هذه المادة وفقاً للاجراءات المنصوص عليها في هذا القانون ، وحيث ان قرار المحكمة الاتحادية المذكور لم يتضمن الاشارة لسريانه باثر رجعي فان اثر الحكم يكون مباشراً للمستقبل استناداً لقراراها المرقم ( 28/اتحادية /2018) في 12/2/2018 الذي حدد النطاق الزمني لسريان قرارات المحكمة الاتحادية العليا ، وهذا يعني استقرار الاوضاع القانونية المقررة قبل تاريخ صدور قرار المحكمة الاتحادية العليا بعدم دستورية جزء من نص المادة (97) من قانون البلديات .....والله الموفق .

مواضيع ذات صلة