آخر الاخبار

shadow

مشروع قانون المحكمة الاتحادية العليا والتعديلات الجارية عليه في ضوء الدستور العراقي لعام 2005

القاضي جبار جمعة اللامي

ينشغل مجلس النواب العراقي هذه الأيام في التصويت على مشروع قانون المحكمة الاتحادية العليا الذي وصفه رئيس مجلس النواب والكثير من أعضاء المجلس بأنه من أهم القوانين التي ينوي المجلس إقرارها بعد حسم جميع النقاط الخلافية المتعلقة بمشروع القانون التي اعاقة تشريعه لفترة طويلة وأنه سيتم التصويت عليه بالصيغة التي تم الاتفاق عليها ... ومن ذلك يتبين بأن مجلس النواب قد أجرى العديد من التعديلات على مشروع القانون بالنسخة التي أحيلت عليه من قبل مجلس الوزراء ,

الأمر الذي يستدعي من السادة القضاة ورجال الفقه الدستوري والمحامين والحقوقيين ومؤسسات المجتمع المدني وكل من يناصر بناء دولة مدنية ديمقراطية مراجعة مسودة القانون قبل التصويت عليها من قبل مجلس النواب وبيان آرائهم بما ادخل على مشروع القانون من تعديلات وبيان مدى موافقتها مع احكام الدستور العراقي المتعلقة بالسلطة القضائية التي وردت في الفصل الثالث من الدستور وخصوصاً ما جاء بالفرع الثاني منه بالمواد (92 ، 93 ، 94)  المتعلقة بالمحكمة الاتحادية العليا  حرصاً من الجميع في المحافظة على النظام الديمقراطي في العراق وصيانة كرامة القضاء وضمان استقلاليته والنئي بالمحكمة الاتحادية العليا عن التجاذبات السياسية وتدخل السلطات الأخرى في عملها, وفي ضوء نبين التالي:-

 تعتبر المحكمة الاتحادية العليا هي الجهة القضائية العليا في العراق المختصة بالرقابة على دستورية القوانين والانظمة النافذة والمصادقة على النتائج النهائية للانتخابات العامة لعضوية مجلس النواب والفصل في المنازعات التي تحصل فيما بين حكومات الاقاليم او المحافظات اضافة الى اختصاصاتها الاخرى التي نص عليها الدستور وتشمل اختصاصاتها انحاء العراق كافة وتعد محكمة القضاء الدستوري في البلد غايتها صيانة النظام التشريعي والقانوني وأبعاده عن أي مخالفة لأحكام الدستور شكلاً وموضوعاً .. ترسيخاً وتجسيداً لمبدأ المشروعية وسمو حكم النص الدستوري وسيادة القانون في حماية الحقوق العامة والخاصة والحريات في الدولة.

اولا: مقترح فصل المحكمة الاتحادية العليا عن مجلس القضاء الاعلى وباقي مكونات السلطة القضائية :-

ان المقترح أعلاه جاء مخالفاً لأحكام العديد من مواد الدستور ومنها المواد
    ( 87 ، 89 ، 90 ، 92) وكما يلي:

أ. جاء بالمادة (87 من الدستور ) ان السلطة القضائية مستقلة وتتولاها المحاكم على اختلاف انواعها ودرجاتها وتصدر أحكامها وفقاً للقانون:

عليه ولما كانت المحكمة الاتحادية العليا هي (هيئة قضائية) كما عرفتها المادة (92) من الدستور لذا تكون المحكمة الاتحادية العليا هي أحدى مكونات السلطة القضائية شأنها شأن المحاكم الاخرى كما اشارت اليه المادة (87) من الدستور بصريح عبارة (المحاكم على أختلاف انواعها ودرجاتها) لذا لا يمكن باي حال من الاحوال وفقاً لذلك فصل المحكمة الاتحادية عن مجلس القضاء الاعلى والسلطة القضائية سيما وان من بين اختصاصات المحكمة الاتحادية العليا وفقا للمادة (93) من الدستور الفصل في تنازع الاختصاص بين القضاء الاتحادي والهيئات القضائية للاقاليم والمحافظات غير المنتظمة في اقليم والفصل في تنازع الاختصاص فيما بين الهيئات القضائية للاقاليم اوالمحافظات غير المنتظمة في اقليم, الامر الذي يوضح مدى الترابط بين المحكمة الاتحادية ومجلس القضاء الاعلى.

ب. جاء بالمادة (89) من الدستور:( تتكون السلطة القضائية الاتحادية من مجلس القضاء الاعلى والمحكمة الاتحادية العليا ومحكمة التمييز الاتحادية وجهاز الادعاء العام وهيئة الاشراف القضائي والمحاكم الاتحادية الأخرى التي تنظم وفقاً للقانون).

يتبين من نص المادة (89) اعلاه ان المحكمة الاتحادية العليا ومجلس القضاء الاعلى وباقي مكونات السلطة القضائية كمحكمة التمييز الاتحادية وجهاز الادعاء العام وهيئة الاشراف القضائي والمحاكم الاتحادية المختلفة تمثل عناصر ذات ارتباط وثيق غير قابل للانفصال استناداً لنص دستوري ملزم تمثل في المادة (89) أعلاه والتي تقرر بموجبها جمع المكونات اعلاه بسبب طبيعة عملها في جهة واحدة تمثلت في السلطة القضائية وجعل المحكمة الاتحادية العليا في ريادة وصدارة هذه السلطة باعتبارها أعلى هيئة قضائية في الدولة يرئسها قضاة يشترط ان تتوفر فيهم صفات خاصة  من حيث الكفاءة ومدة الخدمة والنزاهة .

ان التفسير المذكور كما اوضحنا مبني على نص دستوري ملزم وبالتالي يصبح الامر غير قابل للإجتهاد اذ لا مساغ للاجتهاد في مورد النص وفقا للقاعدة التي جاءت بها المادة (2) من القانون المدني العراقي رقم (40) لسنة 1951.

 واذا ما سلمنا جدلاً بجواز فصل المحكمة الاتحادية العليا عن مجلس القضاء الاعلى وباقي مكونات السلطة القضائية فاننا بالتالي نسمح ونجيز بفصل باقي مكونات السلطة القضائية الواردة في المادة (89) من الدستور كمحكمة التمييز الاتحادية وهيئة الاشراف القضائي والادعاء العام والمحاكم الاتحادية المختلفة الاخرى عن بعضها البعض وعن مجلس القضاء الاعلى والسلطة القضائية . وهذا أمر لا يمكن تصوره مطلقاً لاستحالة عمل اي منها بمعزل عن باقي المكونات الاخرى لذا يكون فصل المحكمة الاتحادية العليا عن مجلس القضاء الاعلى وباقي مكونات السلطة القضائية فيه مخالفة لاحكام الدستور في المادة (89) منه.

 د. جاء في المادة (92) من الدستور العراقي لعام 2005 بأن للمحكمة الاتحادية العليا استقلال مالي وجعل الدستور مجلس القضاء الاعلى الجهة المختصة في اعداد مشروع موازنة المحكمة الاتحادية العليا فحسب المادة (91) الفقرة (ثالثاً) والتي نصت (اقتراح مشروع الموازنة السنوية للسلطة القضائية الاتحادية , وعرضها على مجلس النواب للموافقة عليها) انيطت صلاحية اقتراح مشروع الموازنة السنوية للسلطة القضائية الاتحادية وبضمنها المحكمة الاتحادية العليا إلى مجلس القضاء الاعلى وعرضها على مجلس النواب للموافقة عليها... وبالتالي نلاحظ هنا مدى الترابط بين المحكمة الاتحادية العليا ومجلس القضاء الاعلى من كون ان الاخير هو الذي يقوم بإعداد مشروع الموازنة للمحكمة الاتحادية العليا وغيرها من مكونات السلطة القضائية وهذا ثابت بنص دستوري ملزم فكيف يتصور الفصل بين الاثنين... وعند الفصل بينها من سيقوم باعداد موازنة المحكمة فهل هي المحكمة ذاتها ام جهة اخرى يمكن ان تقوم بهذا الامر... ان الجواب هنا في ظل ماجاء بنص المادة (91) من الدستور يكون بالنفي كون ان المادة اعلاه قد حددت صراحةً مجلس القضاء الاعلى باعتباره الجهة المسؤولة عن اعداد الموازنة لجميع مكونات السلطة القضائية بضمنها المحكمة الاتحادية العليا واذ ان اعمال الكلام اولى من اهماله , وان المطلق يجري على اطلاقه اذا لم يقم دليل التقييد نصا او دلالة وفقا للقاعدة التي جاءت بها المادة (160) من القانون المدني رقم 40 لسنة 1951 لذا يعتبر اي رأي او قانون ينص على خلاف ذلك مخالف للمادة (91 ) من الدستور مالم تعدل المادة الدستورية المذكورة.

 

ثانياً: المقترح الخاص (بتشكيلة المحكمة الاتحادية) اذ أشيع بأن مجلس النواب يتجه الى جعل المحكمة الاتحادية العليا تتكون من عدد من القضاة وخبراء في الفقه الاسلامي وفقهاء القانون وان العدد يكون (5) قضاة و (8) من فقهاء الشريعة والقانون بمعنى ان يكون عدد القضاة في المحكمة أقل من عدد الفقهاء ورجال القانون فضلاً عن جعل الفقهاء ورجال القانون اعضاء اصليين في المحكمة بمنحهم صفة قضاة وان يكون حضورهم في المحكمة ذو صفة قضائية وليست استشارية كما يفترض أن يكون, وهنا نبين النقاط التالية:

  1. عرفت المادة (92) بفقرتها (أولاً) من الدستور( المحكمة الاتحادية العليا ) بأنها (هيئة قضائية ) لذا يكون الاقتراح أعلاه فيه مخالفة صريحة لنص هذه المادة اذ ان فقهاء الشريعة والقانون ليسوا من القضاة وبالتالي لا يمكن بأي حال من الاحوال جعلهم أعضاء في (هيئة قضائية) مهما كان عددهم وتعدادهم ولو كانوا واحداً أو أثنين اذ ان القاضي في العراق بعد نفاذ قانوني المعهد القضائي رقم 33 لسنة 1976 وقانون التنظيم القضائي رقم 160 لسنة 1979  هو من عين قاضيا بموجب القانونين اعلاة بعد توفر الشروط الواردة فيهما  ولايمكن بأي حال منح ولاية القضاء مطلقاً خلافا لذلك .

الا ان وعملاً بالمادة (92) من الدستور يمكن تعيين عدد من خبراء الفقه الاسلامي واساتذة القانون الدستوري كخبراء ومستشارين في المحكمة دون أن يكون لهم حق المشاركة في إصدار الاحكام وبعكس ذلك فأننا نتجه كما ينبه شراح القانون الدستوري الى جعل المحكمة الاتحادية العليا مؤسسة للأفتاء الديني ونفرغها من ولايتها القضائية الدستورية خصوصا في ضوء ماتردد حول نية بعض الاحزاب السياسية ممن تدعم هذا المقترح الى توزيع المقاعد الثمانية المخصصة لفقهاء الشريعة والقانون وفقاً لنظام المحاصصة الحزبية والطائفية مما يساهم في تعطيل عمل المحكمة الاتحادية نتيجة للاختلاف في الآراء الذي يتوقع حصوله لدى الفقهاء لاختلاف المدارس الفقهية التي ينتمون إليها.

 وللذين يتمسكون بحرفية النص الوارد في الفقرة (ثانياً) من المادة (92) من الدستور من أنها أجازت بان تتكون المحكمة الاتحادية من عدد من القضاة وفقهاء القانون وخبراء الفقه الاسلامي نوضح ما يلي -       

 1 . يجب التفريق هنا بين معنى (تكوين المحكمة) كما جاء في الفقرة (ثانياً) من المادة (92) وبين معنى (انعقاد المحكمة وبمن تنعقد المحكمة) اذ ان (الانعقاد هو غير التكوين) حيث ان الفقرة ثانياً من المادة أعلاه لم تنص على طريقة انعقاد المحكمة وبمن تنعقد وتركت ذلك للقواعد العامة المتعلقة بانعقاد المحاكم المنصوص عليها في قانون التنظيم القضائي وقانون المرافعات المدنية والتي تستوجب ان يكون الانعقاد من القضاة فقط انسجاما مع كون المحكمة هي (هيئة قضائية عليا) وليس لغير القضاة الدراية والمقدرة القضائية والقانونية للفصل في القضايا المعروضة عليها والتي تعتبر غاية في الاهمية والخطورة لذا لا يمكن هنا تفسير طريقة تكوين المحكمة بذات المعنى لطريقة انعقادها والذي حددته الفقرة (أولاً) من المادة (92) من الدستور اذ ان المادة اعلاه دمجت بين مكونات المحكمة والتي حددتها بالقضاة ... ممن تنعقد بهم المحكمة للفصل في النزاعات المعروضة عليها وبين غيرهم من الفقهاء في مجال الفقه والقانون الذين على المحكمة الاستعانة بهم لتعضيد احكامها بما يقدموه من مشورة تبعد في مجملها مخالفة الاحكام التي تصدرها المحكمة للشريعة والفقة الاسلامي... ومن الامثلة القانونية الكثيرة على صراحة معنى الانعقاد ما جاءت به مواد قانون التنظيم القضائي رقم 160 لسنة 1979 ( 13 ، 17 ، 23) وغيرها والتي استعملت بشكل صريح مصطلح انعقاد وليس تكوين وكما يلي:

أ. المادة (13/أولاً/1) من القانون أعلاه (تنعقد الهيئة العامة لمحكمة التمييز برئاسة رئيس محكمة التمييز أو أقدم نوابه عند غيابه...)

ب. المادة(13/أولاً/ب- الهيئة الموسعة – وتنعقد برئاسة رئيس محكمة التمييز أو أقدم نوابه عند غيابه...

ج. المادة (17/أولاً)- تنعقد محكمة الاستئناف وهيئاتها برئاسة رئيسها او أحد نوابه...).

المادة (23) من ذات القانون: (تنعقد محكمة البداءة من قاضي واحد..)
 

ونوضح هنا بان الكثير من الدول العربية ومنها مصر والكويت والسودان وقطر والبحرين وغيرها واغلب دول العالم حصرت انعقاد محاكمها الدستورية بالقضاة فقط ولم تجيز لغيرهم ذلك ومثالها مايلي :

1-  المحكمة الدستورية العليا في مصر .

 فبموجب المادتين (175 و176 ) من الدستور المصري الجديد لعام 2012 تعتبر المحكمة الدستورية العليا بانها هيئة قضائية مستقلة تختص دون غيرها بالفصل في دستورية القوانين واللوائح وتشكل من رئيس وعشرة اعضاء ) يشترط في تعينهم توفر الشروط اللازمة لتولي القضاء المنصوص عليها في قانون السلطة القضائية . 

 

2-  المحكمة الدستورية العليا في الكويت.

بموجب القانون رقم 14 لسنة 1973 تنعقد المحكمة الدستورية العليا في الكويت من خمسة قضاة مع عضوين احتياط يتم اختيارهم من قبل المجلس الاعلى للقضاء ويتم تعينهم بمرسوم اميري .

 3- المحكمة الدستورية العليا في السودان.

 تنعقد المحكمة الدستورية العليا في السودان وفقا لقانونها لعام 2005 من تسعة قضاة يرشحهم مجلس القضاء الاعلى.

4 المحكمة الدستورية العليا قي قطر .

تنعقد المحكمة الدستورية العليا في قطر بموجب القانون رقم 12 لسنة 2008 من رئيس وستة قضاة اشترطت المادة (3) من القانون اعلاه ان تتوفر فيهم الشروط المطلوبة لتولي القضاء المنصوص عليها في قانون السلطة القضائية.

5- المحكمة الدستورية العليا في البحرين.

  تنعقد المحكمة الدستورية في مملكة البحرين من قضاة فقط وهم رئيس وستة اعضاء وحسب الامر الملكي المرقم 46 لسنة 2006.

 ومما تقدم شرحه يتبين لنا مدى مخالفة التعديلات المقترحة لمشروع قانون المحكمة الاتحادية العليا للدستور العراقي لعام 2005 والذي يعد القانون الاسمى والاعلى في العراق والذي لا يجوز سن اي قانون يتعارض معه ويعد باطلاً حسب المادة (13) منه كل نص يرد في دساتير الاقاليم أو أي نص قانوني آخر يتعارض معه.

والله الموفق

مواضيع ذات صلة