آخر الاخبار

shadow

العدالة الدستورية ليست عدالة معصوبة العينين، والرقابة الدستورية ليست عملية حسابية، أو آلية

د. منير حمود الشامي

 

   من نافلة القول إن محكمتنا الدستورية التي بدأت مسيرتها حديثاً، تمثل حجر الزاوية، والضمان الأكبر لالتزام السلطات بالدستور وأحكامه، وتوفير أكثر الضمانات فعالية في حماية الحقوق والحريات للعراقيين جميعاً، وتأمين العدل وسيادة القانون بأوسع معانيها وأكثرها شمولاً، ومن ثم حماية الكيان الجديد الذي أنبثق بعد العام 2003م. لهذا نقرر من غير تردد أنه لا ينبغي لأحد حاكماً كان أم محكوماً أن يُضيق بأحكام المحكمة، أو أن يُذهل عن دورها الكبير في نظامنا الدستوري الفيدرالي الحديث، ولا يجوز لأحد أن يتصور وهماً وخطأً، أن كثرة أحكامها بعدم الدستورية دليل على تجاوزها أو اقتحامها مجال التقدير الذي تركه الدستور وعهد به إلى المجالس التشريعية أو السلطات في الأقاليم والمحافظات. فتطبيق القضاء الدستوري المقارن للدستور وهو يمارس رقابته القضائية لا يكون بطريقة آلية ، وإنما من خلال عملية خلق تفسيرية واسعة، يُذكيها أن نصوص الدستور تتسم في الأعم بالغموض والاتساع –التجريد- وتلك طبيعتها، ولا يتصور بالتالي تحديد مفاهيم هذه النصوص بغير ربطها بنظام القيم التي تستخلصها الهيئة القضائية بنفسها من أجل أن تُحدد لكل قاعدة نص الدستور عليها مضمونها الحق. ومن ثم تتحول عملية تطبيق الدستور لا إلى صوره جامدة، لا حياة فيها ، بل إلى خلق لقواعد جديدة، أو تطوير لقواعد قائمة مما يجعل فهم القضاة للدستور هو الدستور ذاته، كما صرح رئيس المحكمة العليا الامريكية :Charles Evans Hughes"The Constitution Is What the Judges Say It Is"، وبالتالي يكفل –التفسير الواسع- صهر أحكام الدستور في نطاق الحقائق المتغيرة التي تُعاصر تطبيقها، والتي لها من قوة تأثيرها وعمق حركتها مما يجعل معايشتها ضرورة لا بد منها، حتى لا يكون تطبيق الدستور عقيماً أو رجعياً أو نمطياً، بل واقعاً في إطار القيم الدستورية المتجددة روافدها، لتحيط بفروع القانون جميعها، وبالحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية من كل أقطارها، فالمحكمة الدستورية العليا في مصر رددت في أكثر من حكم لها المعنى المتقدم حيث قالت:" أن العدالة الدستورية ليست عدالة معصوبة العينين، والرقابة الدستورية ليست عملية حسابية، أو آلية يُوضع بها نص القانون في مواجهة نص الدستور فيظهر على الفور مدى التطابق أو الاختلاف بينهما"، وفي ذات السياق والنهج عبرت المحكمة العليا الامريكية أيضاً عن هذا الفهم الموسع للحرية بقولها في حكمها بالقضية Missouri v. Holland: 252 U.S. 416 (1920):" أنه عندما نتعامل مع بعض الالفاظ التي هي في الأساس قانوناً تأسيسياً مثل دستور الولايات المتحدة الامريكية، يجب علينا أن ندرك أن تلك الألفاظ قد تجلب كائناً جديداً إلى الحياة غير ذلك الذي جلبته من قبل واضعوها الأوائل".

 وغالباً ايضاً ما يفوض الدستور للمشرع سلطة اختيار النظام الانتخابي وتقسيم الدوائر الانتخابية بما يتفق مع المصلحة العامة، لضمان كفالة التوزيع العادل والفعال للمقاعد والمناصب الانتخابية على كافة فئات المجتمع في مختلف انحاء الدولة، وكثيراً ما يتعسف المشرع لسبب أو لأخر في استخدام هذه السلطة فيسعى عن عمد أو جهالة لتقسيم الدوائر الانتخابية بصورة تفضيلية، أو فرض نظام انتخابي معين مفصل خصيصاً لتحقيق مصالح فئة معينة على حساب باقي أفراد أو فئات المجتمع، وهو ما أجبر القضاء الدستوري المقارن ومنها محكمتنا الموقرة على فرض رقابته الدستورية على قانون انتخابات برلمان كوردستان رقم 1 لسنة 1992 المعدل، فإذا تأكد القضاء الدستوري أن الهدف من الأخذ بنظام انتخابي معين أو الاثر المترتب عليه إلغاء أو اضعاف القوة التصويتية للأقليات أو الطوائف الاخرى لأدنى حد ممكن حكم بعدم دستورية النظام الانتخابي، ومن ذلك على سبيل المثال حكم المحكمة العليا الامريكية سنة 1971م في القضية   Whitcomb v. Chavis،  وحكمها بعدم دستورية النظام الانتخابي وتقسيم الدوائر الانتخابية في ولاية New Mexico في قضية white v regester لأنه كما قالت المحكمة العليا لا يحقق المساواة وتكافؤ الفرص بين الناخبين. وكذلك حكم المحكمة الدستورية العليا في مصر في القضية رقم 17 لسنة 14 ق لسنة 1995م، وهو ذاته ما ذهبت اليه محكمتنا الموقرة في حكمها رقم ( 83 /اتحادية /2024 ) حيث رددت:" لذا وحيث ان الاقتراع يجب أن يتصف بالمساواة بالنسبة للناخبين والمرشحين، والمساواة المقررة في هذا الإطار يجب أن تكون مساواة قانونية وواقعية". فالدساتير المقارنة ومنها الدستور العراقي لسنة 2005م، قد حظر التمييز على اساس الجنس أو العرق أو القومية أو الأصل أو اللون أو الدين أو المذهب أو المعتقد، لكن ذلك لا يعني البته حصر للأحوال التي يمتنع فيها التمييز، وانما كان ذكرها باعتبارها هي الصور الاكثر شيوعاً في الحياة العملية، والقول بغير ذلك يؤدي إلى اجازة التمييز في غيرها من صور التمييز وهو ما يناقض جوهر مبدأ المساواة ويحول بينه وبين تحقيق الهدف ويُعرض الحقوق والحريات والواجبات العامة لخطر التمييز فيها بين المواطنين على غير اسس موضوعيه تبرره.

 ويلاحظ من هذه الاحكام أن القضاء الدستوري المقارن لم يسع لتجاوز دوره الدستوري، ولم يسع لإجبار المشرع وبخاصة في الدولة الفيدرالية على رفض أو تبني نظام انتخابي معين، ولم تسع على فرض رقابته على الملائمة التشريعية، لكن قضائه استقر على وجوب احترام خيارات المشرع وسلطته التقديرية، لكنه يقضي بعدم دستورية تبني المشرع في انحاء الدولة كافة لأي نظام انتخابي يترتب عليه حرمان بعض المواطنين من حقهم الدستوري في الانتخاب والترشيح على قدم المساواة من غيرهم من المواطنين سواء جرى تطبيق هذا النظام الانتخابي على مستوى الدولة ككل أو على أقليم معين منها.

ولابد من الاشارة هنا إلى تعرض المحكمة الاتحادية العليا منذ نشأتها إلى موجات من النقد والهجوم السياسي والفقهي، ولا يؤخذ على رجال الفقه انتقادهم الموضوعي البناء للمحكمة، فذلك حق، بل أنه واجب عليهم من اجل أن تستفيد المحكمة من ملاحظاتهم وأراءهم في إصلاح ما وقعت فيه من اخطاء، لكن ذلك الأمر اتخذ في بعض الاحيان هجوماً لاذعاً غير ذي اساس قانوني أو دستوري صحيح، وعدم الالتزام بالموضوعية والحياد في انتقادهم للمحكمة من خلال صفحات الجرائد والقنوات الفضائية والمواقع الالكترونية غير المتخصصة، مما أحدث اضطراباً لدى الرأي العام، وأثر بالسلب على المحكمة وهيبتها ومكانتها، وكان من الواجب عليهم نشر اراءهم في المجلات العلمية والدوريات المتخصصة والمؤلفات الخاصة، حتى لا تختلط آراء المتخصصين بآراء العامة على المواقع الالكترونية والقنوات الفضائية بهذه الصورة غير اللائقة.

 

مواضيع ذات صلة