آخر الاخبار

shadow

التدخل في شؤون العدالة

أ.د. علي هادي عطيه الهلالي عميد كلية القانون – جامعة بغداد

- الضغط السياسي انموذجاً -

   تبنى دستور جمهورية العراق ،كغيره، الفاظا عدة لبلوغ العدالة ، فلفظ "العادل والعدل" قد ورد في الدستور (1)، بجانب ورود  لفظ "العدالة" (2) ، وحظر صراحة :"التدخل في شؤون العدالة" (3) ، مما يقتضي ايضاح هذا الحظر وتطبيقه في عمل المحكمة الاتحادية العليا .

   ورد لفظ "شؤون" في دستور جمهورية العراق بمناسبات عدة منها : بدأها في الديباجة "والطفل وشؤونه" ، وغيرها (4) ، ويدل معنى "الشؤون" الوارد في العبارات المتقدمة على الكثرة والتنوع ولكنه يؤدي الى غاية نهائية واحدة لا تنفصل عن مقصد الدستور من الفاظ اخرى تسعى الى تحقيق "استقلال القضاء" (5) بوصفه وسيلة لبلوغ غاية نهائية لتحقيق "العدل والعدالة" ، ويكون من مصاديقه تبني الدستور "استقلال القاضي"(6) ، و "عدم التدخل في القضاء " ، و " عدم التدخل في شؤون العدالة"(7) وهكذا ، فلا يتصور بلوغ "العدل والعدالة" دون أن تتكامل تلك الوسائل دون تجزئة .

  إن ترسيخ الحدود بين السلطات مثل ضرورة في بناء الدولة لدى المشرعين الدستورين ومن بينهم مشرع دستور جمهورية العراق لسنة 2005 ، بل أن الدساتير لا تتوقف عند بيان تلك الحدود بل تكفل ضماناتها ، وقد تذهب الى ابعد من ذلك في ايجاد الوسائل التي تراقب تلك الحدود وكفالة تلك الضمانات ، من اجل ذلك استقرت توجهات المشرعين الدستورين على خلق مؤسسة القضاء الدستوري بوصفه وسيلة لتوكيد تلك الحدود وايضاحها ، وكفالة الضمانات واعمالها وبات الضامن لعدم التفرد بالسلطة (8).

    وضمنت المحكمة الاتحادية المعنى المتقدم باكثر من مناسبة مثلما قضت : " يجب على المشرع الامتناع عن تنظيم القضاء اذا كان القصد منه المساس باستقلاله وفي حالة عدم الامتناع وجب استعمال الوسائل الدستورية والتي من خلالها يتم ترسيخ مبدأ سيادة القانون والحفاظ على استقلال السلطة القضائية ويدخل في ذات الاطار وجوب عدم اصدار القوانين المتعلقة بشؤون القضاء الا بناء على اقتراح او مشورة السلطة القضائية حتى يضمن استقلالها... " (9) ،كما قضت :" وإن الذي يتولى ادارة شؤون الهيئات القضائية بموجب المادة 90 من الدستور هو مجلس القضاء الاعلى لذا فان هذا الاستقلال يمثل استقلال مؤسسي لجميع مكونات السلطة القضائية ضمن الاطار العام لتلك السلطة بما يضمن تحقق الفصل بينها وبين باقي السلطات " (10) .

   وفي الدول الاتحادية تعدت اهمية القضاء الدستوري ، عن ما تقدم ، إذ اصبح ضمانة لبقاء وحدة الدولة في ظل تنوع سلطاتها و تعدد قوانينها ، وكافلاً لعدم تفتتها واستمرار النظام الاتحادي ضمن اطار الدولة الواحدة ، وتطورت مهام القاضي الدستوري حتى اصبح ضامناً للدستور الحي ، الذي يبث الحياة للدستور وإن تقادم اصداره ، مفعماً بالحياة خلايه المتهالكة عبر الزمن حتى تمتد ولايته لتضمن حقوق الجيل القادم ، الذي لا تشرع له القوانين ولا يجد من يدافع عن حقوقه غالباً.

  لذا لم يكن مستغرباً أن تتبنى الدساتير حماية مؤسسة القضاء الدستوري من التدخلات المباشرة الصريحة وتلك التدخلات والتاثيرات المتوارية خلف عناوين عدة ، حتى وصلت تلك الحماية لغاية تجريم الافعال التي تتدخل بشؤون العدالة وعدها جريمة لا تسقط بالتقادم (11)

    ومما لا شك فيه أن النقد أو الضغط السياسي الاعلامي الصادر من احدى السلطات في الدولة يمثل أحد اشكال التدخل أو التأثير في شؤون العدالة وعمل القاضي الدستوري ، وبخاصة اذا ما تزامن مع اجراءات السير باحدى الدعاوى ذات البعد السياسي أو جاء عقب حسم احدها ، لذا فإن محاولات توجيه اجراءات العدالة وشؤونها في عمل المحكمة الاتحادية العليا وجهة معينة تحيد بها عن العدالة لن يكون سوى هادماً لفلسفة بناء الدولة التي اختطها دستور جمهورية العراق لسنة 2005  ومسقطاً للفكرة القانونية السائدة في الدستور المبنية على أساس عدم عودة التغول في السلطة من جديد .

الهوامش

(1)   مثلما ورد في المواد /23-ثانيا و 110-ثامناً من دستور جمهورية العراق لسنة 2005

(2)   المادة /106 من الدستور .

(3)   المادة/88 من الدستور .

(4)   كعبارة " الشؤون الداخلية للدول في المادة/8 من الدستور ، وعبارة  " الشؤون العامة" في المادة /20 ، وعبارة "وتهتم بشؤونها" في المادة/45   ، وعبارة"شؤون الوظيفة" في المادة/107 ، وعبارة"الشؤون الثقافية والاجتماعية والانمائية" في المادة /121 .

(5)   المادة/19 – أولاً من الدستور .

(6)   المادة/88 من الدستور .

(7)   المادة/88 من الدستور .

(8)   د.فائق زيدان . رقابة القضاء الدستوري على الحدود الدستورية بين السلطات . اطروحة دكتوراه ،2020 .

(9)   القضية 65 /اتحادية/2021 في 31/8/2021 .

(10)   القضية 66 /اتحادية/2021 في 29/9/2021  .

(11)   المادة 184 من دستور جمهورية مصر لسنة 2014 .

مواضيع ذات صلة