آخر الاخبار

shadow

الاتحادية العليا وجزاء الحنث باليمين الدستورية

د.احمد طلال عبد الحميد البدري

 

  اصدرت المحكمة الاتحادية العليا قرارها بالعدد (9/اتحادية/2023) في 14 /11 /2023 والمتضمن الحكم بإنهاء عضوية النائب ( ليث مصطفى حمود الدليمي ) وعضوية رئيس مجلس النواب ( محمد ريكان الحلبوسي) اعتباراً من تاريخ صدور الحكم في 14 /11 /2023 في قضية تتخلص وقائعها قيام النائب ( ليث مصطفى حمود الدليمي ) بإقامة دعوى ضد رئيس مجلس النواب ( اضافة لوظيفته ) حول قيام الأخير باستخدام طلب للاستقالة قدم من قـِبـَله بتاريخ 7 /5 /2022 اثناء الدورة النيابية الرابعة تحت الضغط والاكراه لأسبابٍ سياسية ، ولم يتخذ رئيس مجلس النواب اجراءً بقبولها في حينها لحصول التراضي والتسوية بين الطرفين بعد تدخل بعض النواب  ، وتم لاحقاً استخدام هذا الطلب لأغراض قبول استقالته في الدورة الخامسة بعد شطب تاريخ الاستقالة القديم وقبولها بتاريخ 15 /1 /2023 واصدار أمر نيابي بالعدد (5) في 15 /1 /2023 ، بقبول الاستقالة استناداً للمادة (12/ ثانياً) من قانون مجلس النواب وتشكيلاته رقم (13) لسنة 2018 ، التي حددت حالة إنهاء العضوية من مجلس النواب ، ومنها حالة الاستقالة دون عرض طلب الاستقالة للتصويت عليها من قبل اعضاء مجلس النواب ، كما قضت المحكمة الاتحادية العليا بعدم صحة الأمر النيابي اعلاه الخاص بقبول استقالة النائب ، وملحقه الأمر النيابي بالعدد (136) في 14 /5 /2023 الذي اصدره رئيس مجلس النواب اثناء سير المرافعات امام المحكمة الاتحادية العليا لتصويب تاريخ قبول الاستقالة ليكون اعتباراً من 7 /5 /2022 بدلاً من 15 /1 /2023 ؛ لتغطية الادعاء بعدم قبول الطلب في حينه ، وشطب تاريخ الطلب من قـِبـَل رئيس مجلس النواب ، مع رد طلب الشخص الثالث النائب (باسم خزعل خشان) بخصوص تعاقد رئيس مجلس النواب مع شركة صهيونية لتقديم الاستشارات، ومن ضمن مستشاريها رئيس وزراء الكيان الصهيوني السابق (ايهود باراك) كونه – أي الطلب - يصح أن يكون محلاً لدعوى مستقلة ، وقد تضمن القرار المذكور الكثير من التفاصيل التي جرت اثناء سير المرافعة ، وسنحاول التركيز في هذا التعليق على المبدأ الاساسي الذي استندت اليه المحكمة بإنهاء عضوية رئيس مجلس النواب لكونه يمثل تفعيلاً لنص دستوري كاد أن يصيبه الجمود بعدم التطبيق  ، وهذا ما سنتناوله في المحاور الاتية :

1- في البداية لا بد أن نشير الى أن المحكمة الاتحادية العليا قد استهلت حكمها بالإشارة الى رؤيتها للسلطة التشريعية وأضفت عليها صفة القداسة لأهمية دورها في نهضة الامم وإصلاحها حيث جاء في حيثيات القرار ( ...ان الشعوب تنظر الى السلطة التشريعية بالقداسة والاحترام لما لهذه المؤسسة التشريعية من قدرة وامكانية وصلاحيات قادرة بها، ومن خلالها الى ان تدفع البلاد والعباد أشواطاً الى الامام أو تقودها الى الوراء ، هذه المؤسسة التي حملت اسماء متعددة من برلمان الى كونجرس او جمعية وطنية او مجلس نواب فمهما تعددت التسميات وتنوعت يظل البرلمان قائداً وموجهاً ومشرعاً ومراقباً وضابطاً لكل فعاليات الدولة ومؤسساتها) .

2-الأصل ان الرقابة على دستورية القوانين والمنازعات الدستورية تكون في إطار الدستور لا خارجه ، ومع ذلك توسعت المحكمة الاتحادية العليا في الرقابة خارج نطاق الدستور من خلال استلهام المبادىء الواردة في المواثيق الدولية حيث لم تكتفِ بالإشارة الى نصوص دستور جمهورية العراق لسنة 2005 المواد (5،6،14،16،17،20،39) منه ، وإنما اشارة القواعد والمعايير الدولية التي تمثل الركائز الاساسية في بناء الديمقراطية ،  كنص المادة (21) من الاعلان العالمي لحقوق الانسان لسنة 1948 والخاصة بالحق بالمشاركة في ادارة الشؤون العامة ، وحق الانتخاب والترشيح والمساواة في تقلّد الوظائف العامة ، والمادة (25) من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية لسنة 1966 ، وللمحكمة الاتحادية قرارات سابقة مدت نطاق رقابتها خارج نصوص الدستور الى المواثيق والعهود الدولية التي تتضمن الحقوق والحريات العامة الاساسية التي هي محل اتفاق دولي .

3- اكدت المحكمة في قراراها على مبدأ الامانة والمسؤولية وخصوصاً لأعضاء السلطة التشريعية باعتبارها السلطة الاتحادية الاولى في العراق، ويجب ان لايصدر من ممثلي الشعب الذين وصلوا لعضوية الهيئة  التشريعية أي سلوك يخلُّ بالثقة والمسؤولية التي منحت لهم من قـِبـَل الناخبين باعتبارهم ممثلي الارادة العامة ، حيث توصلت المحكمة الاتحادية العليا الى وجود تلاعب في تاريخ تقديم الاستقالة بشطبها من رئيس المجلس، وتثبيت تاريخ آخر وهو تاريخ قبول الاستقالة ، حيث جاء في حيثيات قرارها ( ...ان وكيل المدعى عليه وفي جلسة 17 /4 /2023 أقـَرّ أن الطلبين مقدمين بذات التاريخ ، كما أقـَرّ أن رئيس مجلس النواب وافق على طلب الاستقالة المقدم بخط اليد من المدعي، وان الموافقة كانت بتاريخ 7 /5 2022، ولكن بسبب تدخل بعض النواب تأخرت الاستقالة في مكتب رئيس المجلس وقام رئيس المجلس بشطب تاريخ الموافقة 7 /5 /2022 وترويجها بتاريخ 15 /1 /2023 ، وبذلك يكون الوارد للطلبين اعلاه غير صحيح ، وان شطب تاريخ الموافقة الاولى على الاستقالة 7 /5 /2022 ، وجعلها 15 /1 /2023 ايضاً غير صحيحة ، وان ذلك لاينسجم مع متطلبات السلوك الصحيح لأعضاء مجلس النواب باعتبار ان اعضاء مجلس النواب يمثلون الشعب العراقي بمكوناته كافه ، وهذا التغيير في الحقيقة يمثل تحريفاً فيما ورد في ورقة الاستقالة وثبت ذلك للمحكمة من خلال ما جاء بأقوال المدعي واقرار وكيل المدعى عليه اضافة لوظيفته بموجب الكتب الرسمية التي اطلعت عليها المحكمة) .

4- ان المبدأ الاساسي الذي استندت اليه المحكمة في انهاء عضوية المدعي والمدعى عليه هو سلوكهم الذي يشكل حنثاً باليمين الدستوري وموجباته، وتحديداً ماجاء في المادة (50) الذي تضمنت صيغة اليمين الذي يتوجب ان يؤديه عضو مجلس النواب ، والذي يبدأ بالقسم بالله العلي العظيم بتأدية المهام والمسؤوليات بتفانٍ وإخلاص الى آخر صيغة اليمين وهي كلها التزامات دستورية يتوجب على عضو مجلس النواب الالتزام بها وإلاّ يعد ناقضاً لعهده المؤكد باليمين ، إلا أن المُشرِّع الدستوري لم يضع جزاءً يترتب على هذا الانتهاك ، هل هو جزاء سياسي بإنهاء عضوية النائب ، أم جزاء جنائي يتطلب رفع الحصانة عنه وإخضاعه لمحاكمة جزائية ، ومن هي الجهة المختصة بإجراء هذه المحاكمة ؟

5- على مستوى محاسبة رئيس الجمهورية نجد أنه يؤدي ذات اليمين المنصوص عليه في المادة (50) من الدستور ، حيث نصت المادة (61/ سادساً) من الدستور على حالات مساءلة رئيس الجمهورية أو اعفائه بالاغلبية المطلقة لعدد اعضاء مجلس النواب بعد ادانته من المحكمة الاتحادية العليا في ثلاث حالات وهي (الحنث باليمين ، انتهاك الدستور ، الخيانة العظمى ) ، ولم يبين الدستور مضمون هذه الحالات ووصفها التي تستوجب توجيه الاتهام الى مرتكبها، وهذا يقتضي الرجوع الى القواعد العامة ، فالحنث عن اليمين هو نقض العهد المؤكد باليمين المأخوذ من رئيس الجمهورية او كل من أدّى هذا اليمين سواء من اعضاء السلطة التشريعية أم التنفيذية، ولم يتضمن الدستور أي جزاء عن الإخلال به، في حين أن المادة (2) الفقرة (4) من دستور الولايات المتحدة الامريكية على سبيل المثال نصت على عزل الرئيس ونائب الرئيس وجميع موظفي الولايات المتحدة الامريكية الرسميين المدنيين من مناصبهم اذا وجّه إليهم إتهام نيابي بالخيانة أو الرشوة او أية جنح وجرائم كبرى وأدينوا بسببها إضافة الى الحرمان من تولي وتقلّد اي منصب اخر في الحكومة يتطلب الشرف والثقة بوصفها عقوبة تكميلية، ولانجد نص شبيه أو مماثل في دستور جمهورية العراق يحاسب رئيس السلطة التنفيذية او التشريعية واعضاءها على حد سواء ، وهذا ما يدعونا الى القول إن من أسباب لجوء المحكمة الاتحادية العليا الى الجزاء السياسي بإنهاء العضوية هو الخيار المتاح لها في ضوء سكوت النص الدستوري عن بيان جزاء الحنث باليمن بالنسبة لاعضاء السلطة التشريعية ، وهذا ما يمكن ان نستجليه من حيثيات قرارها الذي جاء فيه (...اذ ان بقبول الاستقالة بتاريخ 7 /5 /2022، لم يعد المدعي نائباً ولايجوز مطلقاً قبول استقالته مجدداً بتاريخ 15 /1 /2023، وان ذلك يشكل استخداماً لصلاحيات برلمانية مخالفة تماماً للدستور والقانون ، وان دستور جمهورية العراق صرح وفقا لما جاء في المادة (50) من الدستور بالقيد الوارد على مضمون الحق وهو اداء المهمات والمسؤوليات البرلمانية بأمانة وبغض النظر عما رسمه الدستور في المادة (52) منه ، فإن الجزاء الذي يُفرَض على مخالفة احكام المادة (50) من الدستور هو عدم صلاحية النائب في الاستمرار بالعضوية لأنه إذا كانت مخالفة المادة (50) من الدستور لاترتب إنهاء العضوية ازاء مخالفة القسم بالله سبحانه وتعالى يصبح وجود تلك المادة لغواً في الدستور ، وهذا لايمكن القول به شرعاً ودستورياً ......) ، ومما تقدم فإن السبب الرئيس لإنهاء العضوية هو نقض رئيس مجلس النواب العهد المؤكد باليمين، وان جزاء هذا النقض إنهاء العضوية واسقاطها دون ان يمنع ذلك من اثارة المسؤوليات الاخرى ، وإلاّ أصبح نص المادة (50) لغواً والمُشرِّع الدستوري منزهٌ عن ذلك ، أما بالنسبة لجريمة تحريف تاريخ تقديم الاستقالة كان بإمكان المحكمة ان بعد ثبوت هذه الواقعة إحالته إلى القضاء المختص لإتخاذ الاجراءات الجزائية عن هذا التحريف بعد ان أنهت العضوية بقرار بات  .

6-ان قرار المحكمة الاتحادية العليا يعد من القرارات التفسيرية البناءة (المنشأة) لأنها فسرت نص المادة (50) من الدستور بطريقة عالجت فيها الإغفال التشريعي للمُشرِّع الدستوري عن تحديد الجزاء المترتب على حنث اليمين لمن يؤديه من خلال إعادة بناء وتكوين النص الدستوري بإضافة القاعدة المغفل عنها ليكون النص الدستور فعالاً ومنسجماً مع غاياته ، فالتفسير في هذا القرار لم ينصب على النص الدستوري، وانما انصب على ما أغفله النص إلا وهو الجزاء ، فالمحكمة الاتحادية العليا لم تكتفِ بالكشف عن الاغفال في النص الدستوري، وانما فسرته بطريقه تحقق غاية المُشرِّع الدستوري من ايجاده ووظفته لاحقاً لحسم الدعوى .

7- ان انهاء العضوية في هذه الحالة لايندرج تحت حالات بت مجلس النواب بعضوية اعضائه والتي تكون لاحقة لعملية الانتخاب وقرار المجلس قابل للطعن امام المحكمة الاتحادية العليا استناداً للمادة (52/ثانياً) من الدستور ، كونه يتعلق بحالة الحنث باليمين التي يترتب على ثبوتها إنهاء العضوية وقت صدور القرار ولايرتد الى وقت الانتخابات ، حيث جاء بحيثيات قرار المحكمة ( ...ان المقصود بالفصل في صحة العضوية هو فحص الوضع القانوني للنائب منذ تقديمه لطلب الترشيح الى اعلان نتيجة الانتخابات ، وهذا يقتضي التاكد من توافر شروط الترشيح في العضو ، وقد حرصت اغلب البرلمانات على تكريس انفرادها بالفصل في صحة عضوية اعضائها بإسناد ذلك الاختصاص الى البرلمان تطبيقاً لمبدأ سيادة الامة ، وبالتالي سيادة البرلمان وتطبيقاً لمبدأ الفصل بين السلطات) .

8- كنا نأمل من المحكمة الاتحادية العليا ان يتضمن حكمها فقرة إيعازية الى السلطة التشريعية لسنِّ قانون يتضمن مساءلة رئيسي الهيئتين التشريعية والتنفيذية واعضائها عن حالات الحنث باليمين الدستوري وانتهاك الدستور تطبيقاً لنص المادة (93/سادساً) من الدستور التي أعطت للمحكمة اختصاص الفصل بالاتهامات الموجهة الى رئيس الجمهورية، ورئيس مجلس الوزراء، والوزراء، ويُنظّم ذلك بقانون ، وايضاً لمعالجة الإغفال التشريعي في بعض الاحكام المنظمة لإستقالة عضو مجلس النواب بإرادته المنفردة ...والله الموفق .

 

مواضيع ذات صلة