آخر الاخبار

shadow

العدول القضائي... ليس طريقاً للطعن بالأحكام القضائية الباتة

د.احمد طلال عبد الحميد البدري

  على هامش صدور قرار المحكمة الاتحادية العليا بالعدد (9/اتحادية /2023) في 14 /11 /2023  والمتضمن انهاء عضوية رئيس مجلس النواب اعتباراً من تاريخ صدور الحكم أُثيرت في وسائل الاعلام موضوعات تتعلق بالطعن بقرار المحكمة الاتحادية العليا بالرغم من كونه باتاً من قـِبَل بعض السياسيين وحتى من بعض القانونيين وطرحوا فكرة عدول المحكمة عن قرارها بحجة أنه تضمن مخالفاتٍ للدستور حسب وجهة نظرهم ، والحقيقية ان مثل هذا الطرح يشكل مفارقة قانونية تستوجب الوقوف والتعليق عليها، ولاسيما ان بعض أصحاب هذه الطروحات من رجال القانون ، وهذا ما سنتناوله في المحاور الاتية :

1- ان العدول عن الأحكام القضائية أو مايعرف فقهاً (التحول عن الأحكام ) يُعد أحد الظواهر القضائية المتطورة ويعني تغيير اتجاهات المحكمة القضائية وتبني حلّ أو مبدأ جديد متناقض مع مبدأ سابق تبنته لأسباب سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية أو قانونية أو فقهية وهو لايُـعـَد احد طرق الطعن القضائية التي يمكن للخصم اللجوء إليها وخصوصاً أمام المحاكم العليا التي تكون قراراتها قطعية كالمحكمة الاتحادية العليا ومحكمة التمييز الاتحادية والمحكمة الادارية العليا ، فالمحاكم العليا هي المسؤولة عن تحقيق الأمن القضائي واستقرار المبادىء التي تصدر عنها لتحقيق الثقة بهذه المؤسسات القضائية وفقاً لمبدأ التوقع المشروع ، إلا أن الاعتبارات آنفة الذكر قد تقتضي من المحكمة العليا ان تعدل عن مبدأ سابق تبنته اتجاه حالة تنطبق عليها أوضاع معينة ولا تتعلق بشخص معين بالذات ، لذا فالعدول هو استثناء مقرر على فكرة استقرار المبادىء القضائية تبرره ضرورات معينة، ولذلك لايجب التوسع فيه وان يتم الركون إليه بحذر من المحكمة العليا وان يكون العدول محاطاً بضمانات معينة كأن يكون العدول تدريجياً عن المبدأ القديم لضمان تقبل المبدأ الجديد ، وكذلك عدم جواز العدول عن المبدأ الجديد وفقاً لقاعدة ( لاعدول عن العدول) ، وان لايكون المبدأ الجديد مخالفاً للدستور وان يكون سريان العدول بأثر فوري لا بأثر رجعي حفاظاً على الحقوق والمراكز القانونية التي تم اكتسابها في ظل المبدأ القديم مع ضرورة تعميم ونشر الاجتهاد القضائي الجديد .

2- سبق للمحكمة الاتحادية العليا وان بلورت بموجب قرارها بالعدد (158/اتحادية /2022) في 16 /8 /2022 ضوابط العدول الذاتية عن الأحكام مستندة في ذلك الى نص المادة (45) من النظام الداخلي للمحكمة الاتحادية العليا رقم (1) لسنة 2022 التي نصت على ان ( للمحكمة عند الضرورة وكلما اقتضت المصلحة الدستورية والعامة ان تعدل عن مبدأ سابق أقرته في إحدى قراراتها على ان لايمس ذلك استقرار المراكز القانونية والحقوق المكتسبة ) ، حيث حدد دواعي ومقتضيات العدول استجابة للظروف والمتغيرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وأن يكون هدف العدول تحقيق المصلحة العليا للبلد ودعم الحقوق والحريات العامة وحماية الأمن وتحسين عمل السلطات الاتحادية وتقويمها وضمان حسن سير المرافق العامة للدولة، وان يكون العدول يتعلق بمبدأ قضائي سابق وغير متعلق بقرارات ذات طبيعة شخصية .

3-سبق للمحكمة الاتحادية العليا وان تعرضت لموضوع العدول القضائي والأحكام الباتة عندما ردت دعوى اقامها النائب (م.ر.ض.ج) بالعدد (201/اتحادية/2023) في  16 /  10 /2023  طالباً الحكم بعدم دستورية المادة (36) من النظام الداخلي للمحكمة رقم (1) لسنة 2022 والتي نصت على ان ( قرارات المحكمة الاتحادية العليا باتة وملزمة للسلطات كافة ) مستنداً في دعواه الى امكانية إقامة دعوى مستقلة للعدول عن حكم سابق ولايشكل ذلك طعناً بقرارات المحكمة، وهنا خلط المدعي بين فكرة العدول القضائي الذي يتعلق بمبدأ وليس بقرار يتعلق بشخص بذاته كحالة الطاعن وبين فكرة الطعن القضائي، وقد جاء في حيثيات قرار المحكمة ( ...تجد المحكمة ان العبارة المطعون فيها بعدم الدستورية والمقتبس نصها أعلاه، إنما هي تكرار وتأكيد لما نصت عليه المادة (94) من الدستور، والتي تنص بأن ( قرارات المحكمة الاتحادية العليا باتة وملزمة للسلطات كافة ) وان العبارة الواردة في المادة (36) من النظام الداخلي للمحكمة لم تأتِ بحكمٍ جديد أو إضافة قانونية جديدة ، وإنما هو تأكيد للنص الدستوري ، وان معنى البتات بالنسبة للأحكام القضائية مقتضاه عدم جواز الطعن فيها بأي شكلٍ من الاشكال ، ومن الامور المعلومة أن نصوص الدساتير تكون مختصرة لاتحتوي على تفاصيل كثيرة، بينما تأتي التشريعات الادنى درجة (القوانين والانظمة) لتفصل النصوص والمبادىء الدستورية بعبارات أكثر تفصيلاً وتوضيحاً، ولكل ماتقدم ولعدم وجود مخالفة دستورية قررت المحكمة رد دعوى المدعي ....) ، والواضح من الدعوى ان المدعي يطعن بنهائية الأحكام الصادرة عن المحكمة الاتحادية العليا لأنها تغلق باب مراجعة احكامها، وهذا امر طبيعي لأن معظم احكام المحاكم العليا كالتمييز الاتحادية باتة ولاتقبل الطعن إلابحالات معينة كتصحيح القرار التمييزي مثلاً ، أما المحكمة الاتحادية العليا فهي محكمة دستورية وإن المشرع الدستوري أعطى وصف قطعية الأحكام وبتاتها بهدف غلق باب التدخلات في عملها وضمان استقرار الأحكام الصادرة عنها بسبب خطورة وخصوصية عملها ، فضلاً عن أحكامها لاتخضع لولاية أو مراجعة محكمة اخرى .

4- اما طرق الطعن بالأحكام القضائية فهي عادة تحدد في القوانين الاجرائية كقانون المرافعات وقانون أصول المحاكمات ، وقد يترتب على الطعن بالتمييز مثلاً أمام محكمة التمييز الاتحادية عدول محكمة التمييز الاتحادية عن مبدأ سابق لها، وهذا يمثل اتجاه قضائي جديد إلا أن القرارالتمييزي الذي تضمن عدولاً عن مبدأ سابق لايخضع للطعن مجددا؛ لان قرارات محكمة التمييز الاتحادية باتة ومنهية للخصومة ، ولذلك فالطعن أمام محكمة التمييز قصره القانون على بعض الأحكام والقرارات وأوجب على الطاعن ان يستند في طعنه الى اسباب حددها القانون، ولايجوز تقديم أدلة جديدة أمام محكمة التمييز لم يسبق إيرادها سابقاً، لذا يجب التمييز بين فكرة العدول القضائي ودواعيه، وبين فكرة الطعن القضائي ، إذ ان القانون هو الذي يحدد طرق الطعن العادية والاستثنائية على سبيل الحصر .

5-يذهب البعض الى الاستناد لنص المادة (100) من الدستور التي تنص على ان ( يحظر النص في القوانين على تحصين أي عمل أو قرار إداري من الطعن ) للاعتراض على نهائية احكام المحكمة الاتحادية العليا ، وهذا الاستناد مردود لان النص يتعلق بالاعمال والقرارات الصادرة عن الادارة، وليس من المحاكم بصفتها القضائية اثناء ممارستها لعملها ، وهذا النص جاء على هامش خلفيات تاريخية تتعلق بقرارات كانت تصدر من السلطة التنفيذية قبل عام 2003 محصنة من الطعن القضائي تحت عنوان اعمال السيادة ، الا اننا يجب التمييز بين القرارات القضائية التي تصدرها المحاكم بمختلف انواعها ودرجاتها ، وبين القرارات الادارية التي تصدرها الادارات القضائية بهدف تنظيم شؤون موظفيها واعمالها فهذه القرارات قابلة للطعن امام المحاكم المختصة ....والله الموفق.

مواضيع ذات صلة