آخر الاخبار

shadow

الحدود السياسية ... للقضاء الدستوري

د.احمد طلال عبد الحميد البدري

   لاشك ان هنالك ارتباط وثيق بين القضاء الدستوري والسياسة ، لأن وظيفة القضاء الدستوري مراقبة مدى خضوع الجميع حكاماً ومحكومين للوثيقة السياسية (الدستور) ، حتى اطلق جانب من الفقه على هذا النوع من القضاء مصطلح ( القضاء السياسي) ، وان كان هنالك اتجاهين لتحديد طبيعة الرقابة التي يمارسها هذا القضاء ، الاول يذهب الى اعتبار رقابة القضاء الدستوري ذي طبيعة قانونية بحتة وهو الاتجاه التقليدي ، حيث يذهب انصار هذا المبدأ الى ان مهمة القاضي الدستوري تنحصر بالفصل بالمنازعات الدستورية بجانبها القانوني الصرف ، وهو بهذا الوصف يمارس – القضاء الدستوري – عملاً قضائياً خالصاً وليس دوراً سياسياً ، فهذا الاتجاه يحدد مهمة القاضي الدستوري بالفحص والمطابقة النصية للتشريع للدستور ، أو مدى تطابق حيثيات النزاع الدستوري المثار أمامها لأحكام الدستور بما يحافظ على مبدأ المشروعية الدستورية ، وهو يعتنق المدرسة النصية ويحصر أعمال القضاء الدستوري بأعمال المطابقة النصية دون التدخل بأعمال السلطة التشريعية ودون تعديه المجال القانوني الى المجال السياسي ، فأعمال تفسير النصوص تنحصر في الاطار القانوني والدستوري دون التأثر بالأبعاد السياسية ، اما الاتجاه الحديث لطبيعة عمل القاضي الدستوري فهو الاتجاه الذي يعطي لعمل القاضي الدستوري طبيعة مزدوجة قانونية وسياسية وهم اتباع مدرسة التفسير الحي للنصوص الذي يستند الى ان الدستور كيان حي متطور يمتلك معاني متجددة وفق حاجات المجتمع ، ووفقاً لهذا الاتجاه فإن القاضي الدستوري لايكتفي بمجرد البحث في القضايا المعروضة امامه وفق الاصول والمبادىء القضائية التقليدية، وانما يتوسع القاضي الدستوري لممارسة دور قضائي مشوب بصبغة أو عباءة سياسية من خلال الاستعانة بعناصر من خارج الدعوى الدستورية قد تكون سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية وتوظيفها في سياسة حسم الدعوى الدستورية ، وقطعاً هذا الاتجاه يقلل من صرامة قاعدة ( المدعي اسير دعواه ) ويعطي المجال واسعاً للقاضي الدستوري للانطلاق من عنصر قانوني ضيق ليصيب هدف أكبر خارج نطاق الدعوى الدستورية متأثراً بالابعاد والاعتبارات السياسية ، وهي ابعاد في الغالب جديرة بالاهتمام مع ضرورة الموازنة بين الاعتبارات القانونية والاعتبارات السياسية، وإلاّ فقد القاضي الدستوري صفته القضائية واتهم بالانحياز لطرف سياسي ، والحقيقة ان القاضي الدستوري مهما حاول ان ينأى بنفسه عن المآزق السياسية يجد نفسه مضطراً للخوض في حيثياتها واسبابها وعنصراً فاعلاً في تحديد مخرجاتها لاحقاً ، لان طبيعة المنازعات التي ينظرها تتعلق بالساسة والمشرعين وان احكامه تؤثر في الغالبية العظمى من المجتمع السياسي ونقصد بذلك الناخبين المؤهلين للانتخاب والترشيح والإدلاء بالأصوات في صناديق الاقتراع ، فأحكامها قد تقّوض كيان سياسي وترفع آخر أو قد تثير المعارك والمناكفات السياسية ، لذا فالقضاء الدستوري تحت ضغط دائم من الجماعات السياسية وجماعات المصالح وهم غالباً وجهان لعملة واحدة ، وهنا يكون المآزق السياسي والقانوني للقضاء الدستوري لأن اتباع حرفية النص معناها فقدان تأثيره السياسي الذي يمس الغالبية العظمى ، وان الامعان في مراعاة الاعتبارات السياسية يفقده صفته القانونية والقضائية ، وهنا تكمن براعة القاضي الدستوري في مسك العصى من الوسط بما يحفظ التوازنات الدستورية وحماية الدستور ولمن جاء الدستور لحمايتهم، والاصل ان المنازعة الدستورية تخضع لمعايير موضوعية لإكتشاف المخالفة المستترة لأحكام الدستور والولوج لنوايا المُشرِّع ، الا ان هذه المعايير وكوابحها ذاتية من خلق القاضي الدستوري نفسه ، وبالتالي لايمكن ان ننفي قطعاً تحول المعيار الموضوعي الى شخصي بالنهاية ، وبالتالي لايمكن ان ننفي تأثر المعيار الشخصي بأعتبارات سياسية معينة وهنا تكمن نقطة ضعف هذا الاتجاه ، ففي مصر استطاعت المحكمة الدستورية العليا ومن قبلها المحكمة العليا تخطي الاسوار العالية لهذه الحدود وبدأت تأخذ بالعوامل الخارجية بعين الاعتبار انطلاقاً من كون وعي وإدراك القاضي من وعي وإدراك المجتمع ، وهذا يتطلب بالضرورة ان يكون القضاء الدستوري مستشعراً لما يدور حوله ويعمل على اطفاء الحرائق السياسية دون ان يفقد حياديته وموضوعيته وثقة المواطنين به ، لذا يجب ان يكون القاضي الدستوري حذراً عند الخوض في الجوانب السياسية حتى لايقع حامي الدستور في حومة مخالفة الدستور وفي هذا الشأن يقول فقيه القانون الدستوري د.احمد كمال ابو المجد عن ضرورة وجود حدود للدور السياسي للقاضي الدستوري ( ...ان جوهر السياسة القضائية هو تحديد الحد الفاصل بين اداء القاضي لدور سياسي بالمعنى الواسع من خلال وظيفته القضائية الملتزمة بحدودها وبين تصديه للقيام بعمل سياسي مكشوف يصعب الدفاع عنه لانه تخلص من الرداء القضائي مع ان الرداء القضائي هو الذي منح من اجله الاستقلال ....) ، والله الموفق .

 

مواضيع ذات صلة