آخر الاخبار

shadow

حرية العمل السياسي

الدكتور وائل منذر البياتي

   ارسى قرار المحكمة الاتحادية العليا العدد (9/ اتحادية/ 2023) في  14 /11 /2023 مبادئ عدة تمحورت حول احترام مواد الدستور الضامنة لديمقراطية النظام السياسي، وأثر تعمد مخالفة هذه المواد على توافر أهلية التمثيل النيابي، من خلال توسيع مفهوم الشروط الواجب توافرها فيمن يتصدى لهذه المهمة، بان لا تقتصر على شروط الترشيح الواردة في قانون الانتخابات وانما تتعداها الى ضرورة توافر اشتراط السمعة الحسنة وان لا تشوب سلوكياته اثناء النيابة عن الشعب أي شائبة، والالتزام بمضامين اليمين الدستورية التي اقسم النائب على احترامها بموجب احكام المادة (50) من الدستور، ومدى احترامه للنصوص الدستورية واحكام القوانين وتطبيقها بحياد وامانة، وإن التعمد في مخالفتها تجعل الشخص غير مؤهل للاستمرار بعضوية مجلس النواب باعتبار الاخير، المؤسسة التي تمثل الشعب مصدر السلطات وفقاً لصريح المادة (5) من الدستور، فالشعب في النظام الديمقراطي هو صاحب السلطة ويمارسها من خلال الانتخاب لاختيار ممثليه، ذلك ان المادة (20) من الدستور نصت على ان " للمواطنين، رجالاً ونساءً حق المشاركة في الشؤون العامة، والتمتع بالحقوق السياسية بما فيها حق التصويت والانتخاب والترشيح" . وما دور المُشـِّرع الا العمل على ترجمة هذه المضامين من خلال نصوص يقتصر دورها على التنظيم، ومن هنا فإن تقييد السيادة الشعبية أو الانتقاص منها أو استلاب جوهرها يُعد أمراً باطلاً من حيث الاصل .

   من جملة المبادئ الدستورية التي أقـرّتها المحكمة في قرارها المرقم (9) في 14 /11 /2023، (مبدأ حرية العمل السياسي)، وما يتضمنه هذا المبدأ من أثر في عدم مشروعية أي نص تشريعي أو تصرف يتعارض مع حق الفرد في المشاركة في الحياة السياسية، سواءً كان هذا التصرف بإجبار المواطنين على الانتماء الى احزاب سياسية بعينها او منعهم من الانسحاب منها، لما في ذلك من تعارض صريح مع الدستور والذي كفل في المادة (39) بفقرتيها، حرية تأسيس الاحزاب والانضمام إليها، وحظر أي سلوك يجبر الناس على الانضمام أو الاستمرار في عضوية الاحزاب السياسية او الجمعيات .

    فحرية العمل السياسي تقتضي عدم تقييد الشخص الراغب في الخروج من الحزب السياسي متى ما وجد أنه لا يستوعب وجهات نظره، فلا إجبار على الصمت داخل الاحزاب السياسية، فالفكرة الديمقراطية تقوم على أساس القبول بالرأي والرأي الاخر ومن غير المنطقي والمعقول ان يتم بناء نظام ديمقراطي من خلال احزاب سياسية تنتهج الدكتاتورية في تنظيماتها الداخلية،  فالعلاقة بين الحزب واعضاءه ليست علاقة تنظيمية أو تعاقدية شبيهة بما موجود في نظام الوظيفة العامة أو اطار عقد العمل، وبالتالي يملك الرئيس فيها القدرة على تقييد الاعضاء في البقاء داخل الحزب وعدم الانسحاب منه متى رغبوا بذلك، كوننا اذا اضفينا أي من الصفتين الماضيتين على العلاقة داخل الاحزاب لأصبح للرئيس صلاحية إجبار الاعضاء على البقاء بحجة المصلحة العامة للحزب ومنع خروجهم من العضوية دون مراعاة  للمبدأ الدستوري الذي يحكم هذه العلاقة ألا وهو (حرية العمل السياسي)، وعدم امكانية إلزام أي شخص بالانتماء أو إجباره على البقاء ضمن تنظيمات حزب سياسي لم يعد يرغب في البقاء معه، لذلك فإن الانسحاب من الحزب والخروج منه دون التقيّد بوقت معين لها أولوية على أي نص أو تصرف قانوني يجبر الاعضاء على البقاء فيه  .

    ولو رجعنا الى الاعلان الفرنسي لحقوق الانسان والمواطن لوجدناه يؤكد في المادة (4) ان " لا تحد ممارسة الحقوق الطبيعية لكل انسان الا بالحقوق المماثلة التي تؤمن للأعضاء الاخرين في المجتمع" . كما واكدت المادة (20) من الاعلان العالمي لحقوق الانسان على حرية العمل الجمعي من خلال النص على " لكل انسان الحق في حرية الاشتراك في الجمعيات والجماعات السلمية ..." بينما جاءت بعدها المادة (21) لتقرر للفرد الحق في ادارة الشؤون العامة لبلاده مباشرة أو بواسطة ممثلين يتم اختيارهم بصورة حرة ".

     وقد بيّن الحكم الصادر عن المحكمة الاتحادية ومن خلال الوقائع التي ثبتت لهيئتها، ان قيام رئيس الحزب بإجبار المرشحين على تقديم استقالاتهم من مجلس النواب أو الهيئات المنتخبة الاخرى قبل الفوز، من خلال أوراق استقالة موقعة دون تاريخ والاحتفاظ بها واستخدامها متى ما يشاء، يمثل مساساً بجوهر حرية العمل السياسي، وإخلالاً بحق النواب في تغيير انتماءهم أو توجهاتهم تبعاً لما يرونه منسجماً مع تطلعات ناخبيهم ومن اعطاهم صفة التمثيل بأصواته، والقبول بوجود ممارسة غير سليمة من رؤساء الاحزاب تجاه اعضاءهم تجعلنا أمام تحول لمفهوم سيادة الشعب الثابت في المادة (5) من الدستور ومقتضاها ان"  السيادة للقانون، والشعب مصدر السلطات وشرعيتها يمارسها بالاقتراع السري العام المباشر وعبر مؤسساته الدستورية "، من كونها وسيلة يعبر عنها أفراد المجتمع عن خياراته في التمثيل الى أداة في إيدي أفراد قلة يتحكمون فيها بإرادة ممثلي الشعب من خلال إبراز ورقة الاستقالة في أي وقت، فحلّت بذلك إرادتهم محل الارادة الشعبية، وهو ما حصل عندما أُجبر النائب (ليث الدليمي) على تقديم ورقة الاستقالة بوصفه شرطاً للسماح له بالترشح ضمن قائمة رئيس مجلس النواب ( محمد الحلبوسي) قبل انتخابات مجلس النواب العام 2021، بما يشكل انتهاكاً لنصوص الدستور وللفكرة الديمقراطية فيه والقائمة على أن يكون انضمام أفراد الشعب إلى الأحزاب السياسية نابعاً من مبدأ الإرادة الحرة المختارة أي بدون إجبار أي فرد في الانضمام أو البقاء في أي حزب في الدولة، ذلك ان امتلاك ادوات الجبر والاكراه لجهة أو لشخص على حساب الاخرين سيؤدي الى اختلال مبدأي المساواة وتكافؤ الفرص المكفولين بموجب المواد (14 و16) من الدستور  .

       ذلك ان التزام النائب يكون تجاه ناخبيه في المرتبة الاولى والاخيرة لا تجاه رئيس حزبه، كون من منحه الحق في التمثيل هي اصوات الشعب وتجاهل هذه الاصوات قبال ارادة رئيس الحزب، يؤدي الى اهدار المقومات الاساسية لصفة النيابة، من امتلاك النائب الحرية في اختيار ما هو مناسب لتمثيل ناخبيه، وبالتالي فإن له كامل الحرية في تغيير انتماءه السياسي أو إبداء اراء تخالف  توجهات حزبه داخل المجلس دون ان يترتب على ذلك أي مساس بصفة النيابة كون الناخبين هم من سيقررون بعدها مدى تحمله للمسؤولية السياسية من خلال إعادة انتخابه أو رفض ذلك ، لذا نجد ان دساتير الدول الديمقراطية ( كفرنسا والمانيا والنمسا وايطاليا وبلجيكا وسويسرا) لا تتضمن نصوصاً تُقيّد ارادة النائب في الخروج على توجهات حزبه السياسي دون مساس بمركزه القانوني بوصفه ممثلاً عن الشعب، لا بل ان بعضها تحظر وضع نصوص تقيّد ارادة النائب خارج نطاق مسؤوليتهم تجاه ضمائرهم، باعتباره ممثل للإرادة الشعبية لا الارادة الحزبية، ومن هنا فإن العمل على تقييد هذه الحرية من خلال الزام المرشحين والنواب بتقديم استقالاتهم مكتوبة لرئيس الحزب تمثل ممارسة مخالفة لكل مبادي الديمقراطية كونها تعبيراً عن توجه تحكمي في ارادة الغير دون اجازة قانونية لمثل هكذا تصرف ، خصوصاً وان قانون مجلس النواب قد حدد الاليات التي يمكن من خلالها تقديم طلب الاستقالة الى المجلس باعتباره صاحب الاختصاص لا الى رئيس الحزب السياسي  .

     لذلك نجد المحكمة الاتحادية العليا قد ذهبت ومن خلال ما توصلت إليه من خلال سير الدعوى والاوراق التي قدمت إليها، والتي ثبت فيها مخالفة لأحكام قانون مجلس النواب بالموافقة على الاستقالة ثم إبقاء النائب الدليمي يمارس مهامه كنائب خلافاً للقرار الصادر من رئيس المجلس، طيلة الفترة من  7 /5 /2022 ولغاية 15 /1 /2023 ثم العمل على اصدار قرار جديد بقبول الاستقالة مرة اخرى بتاريخ لاحق خلافاً للقانون، واكتشاف وجود تغيير في تواريخ الموافقة على الاستقالة، بما يشكل اخلالاً بالقسم الوارد في اليمين الدستورية، والذي يعد شرطاً اساسياً  للسماح للنائب بممارسة مهامه ابتداءً، وتجعل ما صدر من رئيس المجلس فعلاً يتنافى مع طبيعة التزاماته بالحفاظ على مكانة السلطة التشريعية وهيبتها كونها الممثل الشرعي للشعب، مما ادى لقيام المحكمة الاتحادية العليا بتقرير عدم اهليته لتبوء منصب النيابة للمخالفات والخروقات الدستورية والقانونية التي لا تنسجم مع مركزه بوصفه رئيساً للمجلس او ممثلاً عن الشعب ،وبالتالي فإنها قد اضفت حماية دستورية على الحق في حرية العمل السياسي، بما ينسجم مع مكانة السلطة الاتحادية الاولى وهيبتها في العراق بتعبير المحكمة .

 

 

مواضيع ذات صلة